مستقبل اليسار الراديكالي
مستقبل اليسار الراديكالي
فضلا عن تعقيدات الواقع الموضوعي المتسم بانغلاق الحقل السياسي، وصعوبة الولوج إلى استثمار الموارد الإستراتيجية التي تتوفر عليها الطبقات الشعبية وفي مقدمتها الطبقة العاملة، يعاني اليسار الراديكالي من أزمة تفكيك هذا الواقع وإعادة تمثله نظريا وسياسيا من اجل بلورة مشروع اجتماعي للتحرر، ولعل الرهان الكبير الذي يحمله هذا اليسار على محمل الجد، من أجل تعبئة السواعد العمالية والمنتجين المبدعين، يصطدم بعائق نظري شديد التعقيد، إن لم يوليه العناية الكبيرة في سبيل تدليل صعابه، فلن يتقدم قيد أنملة في إنجاح هذا الرهان.
لايتوقف مجهود اليسار فقط في التبني الصادق والحرص الشديد على الالتحام بهذه القوة الشعبية الواعدة، إذ يلزمه في المقام الأول تشخيص ميكانيزمات ومعايير الطور الجديد من النيو-لبرالية ، التي ماانفكت تتصاعد مفاعيلها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ العقود الثلاثة الأخيرة، تاركة ورائها سلسلة من العنف المدمر لجميع أواصر العلاقات الاجتماعية والإنسانية، بالإضافة إلى التنكر العاصف لقيم التضامن والتسامح والكرامة ، رغم تضخيم خطاب حقوق الإنسان والتوظيف الإيديولوجي للقيم الدينية، مثلما يحدث كذلك على قدم وساق تحويل الإنسان والثقافة والأرض والماء والهواء إلى سلعة معممة على نطاق واسع.
من الفوائد الإيجابية الدالة على المسعى الحقيقي ، من أجل نحت مفهوم متقدم للتحرر الاجتماعي والسياسي، هو الانخراط الدءوب في سلسلة من التحريات الإحصائية والتحاليل السوسيولوجية لواقع الطبقة العاملة الجديد المتواجدة في مختلف فروع الإنتاج والتوزيع، وفي ذات الوقت البحت عن مختلف مكونات هويتها الاجتماعية حسب تشكلها التاريخي (فالطبقة الاجتماعية بالمنظور السياسي الشامل مخترقة بشكل مركب من خلال عناصر:"الجنس" و"العرق" واللغة")، فالبرجوازية المغربية تمكنت تاريخيا من توظيف هذه المكونات لتكريس إستراتيجية ذات حدين:الاستغلال المكثف ل"قوة العمل" بصفتها بضاعة، ثم تقسيم الطبقة العاملة وتفكيك أدوات المقاومة التي تبدعها في خضم الصراع ضدها.
في ظل الرأسمالية التبعية، تتوزع "قوة العمل" على نمطين من الاستغلال: العمل المأجور في قطاعات الإنتاج والاستهلاك والخدمات، وميزته الأساسية أنه يتضاءل ولا يستطيع احتواء يد عاملة كثيرة ، بسبب تفكك هذه القطاعات من جهة، ولارتهانه بالسوق الأجنبية من جهة ثانية،كما تتميز خاصيته الأخرى في نهوضه على قاعدة تشريعات تكرس المرونة والهشاشة والمناولة من الباطن في الشغل، أما النمط الثاني فيقوم على الاستغلال المكثف لثروات الأرض والبحر والحيز المكاني ، وخاصيته المركزية أنه ينهض على النهب كتراكم بدائي للريوع والسلطة مسترسل، ينشأ عن هذا الواقع الشديد التعقيد،توزيع جديد ل"قوة العمل"، فمن جهة تتشكل ربوتاريا(مشكلة من يد عاملة ماهرة ، غالبا ما تكون ذات تكوين علمي رفيع وتتحكم عبر برامج رقمية من تسيير روبوتات) هذه الفئة الجديدة ما تزال متقلصة ، لأنها تشتغل في قطاعات صناعية جديدة مثل صناعة السيارات والطائرات، غير أنها قد تتطور في المستقبل( هنا أدب غزير حول نهاية العمل، منه اليميني واليساري) وبروليتاريا في قطاعات للإنتاج والتوزيع والخدمات ، ميزتها الأساسية أنها مستقرة أوشبه مستقرة، لكنها تتعرض لعملية تفكيك لتحل محلها البريتاريا التي ميزتها الأساسية هي أنها تنهض على قاعدة العمل الهش والجزئي، ولا تتوفر على الحماية الاجتماعية، وهي من حيث العدد تتقوى أكثر فأكثر، بينما تتحول القوة الاجتماعية الكبيرة التي تنعت في الأدبيات الماركسية بالمستعدة لببيع قوة عملها، وهي تتشكل من صنفين :الأولى المحرومة من كل تكوين ثقافي أو مهني، والتي تلجأ في الغالب إلى امتهان مهن شديدة البأس (فراشة،حراس سيارات،حمالون في أسواق الجملة ، بغاء...إلخ)، الثانية: تمتلك نصيبا من الثقافة أو التكوين المهني، وهي غالبا ما تعاني من بطالة طويلة الأمد أو محدودة ،حسب تقلبات النضال الشعبي، فقد دلت الانتفاضات الشعبية عن الفترة المناسبة لتوظيف المعطلين دوي الشهادات العليا أو المتوسطة، من أجل امتصاص الغضب الشعبي.