بين نكبة ونكبة نكبات نصنعها بأيدينا
انفض السامر، وأطفئت الأنوار، وأغلقت أبواب الصالات والقاعات، وخلت الساحات من المتظاهرين، وعاد الجمع إلى البيوت والمنازل للراحة تحضيراً لمناسبة قادمة، وطويت الأعلام والرايات، والشعارات المرفوعة. لقد انقضت الذكرى الـ75 للنكبة الوطنية الكبرى، التي أريد لها أن تكون حملة وطنية كبرى، مميزة هذا العام، وماذا بقي في هذا السياق.
• ما زال الانقسام على حاله، بين سلطتين، واحدة في رام الله وأخرى في غزة، كل منهما رسمت لها سقفاً، حدوده الحفاظ على الوضع الراهن، وصون المصالح والمغانم والنفوذ، وتبني تكتيكات، حتى في أكثر المنعطفات خطورة، تحرص على ألا تمس بمصالح السلطة وأصحابها. كل هذا، في ظل غياب أي مشروع للحل الوطني، بعد أن نجحت كلتا السلطتين في إجهاض كل ما قدم لهما من مشاريع واقتراحات بحلول.
• ما زال قطاع غزة تحت وطأة حصار خانق، تفرضه عليه سلطات الاحتلال ما حول القطاع إلى سجن جماعي لمليوني فلسطيني، تخفف إسرائيل بعض إجراءاتها في عملية تبادل، وتحت وطأة حاجة القطاع إلى منفذ يسد به حاجته إلى الأوكسجين، ما كاد أن يحول الواقع إلى استراتيجية تقوم على تحييد القطاع مقابل الخدمات الإسرائيلية.
• أما في الضفة الفلسطينية، فثمة شعب يجاهد ويبذل أقصى ما لديه حفاظاً على كرامته الوطنية في مقاومة باسلة، أراد منها أن يغير الواقع، وأن يفرض واقعاً جديداً، وهو يفتقد إلى مركز قيادي يوحد شتاته في أنحاء المحافظات الست، بين مدن ومخيمات وبلدات وقرى، تخوض كل منها معركتها منفردة، رغم الشعار الرنان «وحدة الجبهات والساحات» الذي لم تتوفر له حتى الآن آلية تقوم على استراتيجية واعية، تترجم هذا الشعار بأبعاده البرنامجية والتأطيرية والتكتيكية تقلل من الخسائر وتراكم في الانتصارات.
• وفي الضفة أيضاً، سلطة تصر على إعلان نفسها سلطة وطنية، لا تتعدى في واقعها كونها مجرد حكم إداري ذاتي، محدود الصلاحيات، ليس على الأرض فقط، بل وحتى على السكان أنفسهم، الذين ما زال سجل نفوسهم، بيد الاحتلال وإدارته المدنية، حكم إداري ذاتي، مكبل بقيود، ما زال رغم صيحاته المخنوقة، واحتجاجاتها الخجولة، يعترف بحق إسرائيل في الوجود، ويدير أجهزة أمنية ما زالت مقيدة بقواعد تعاون وتنسيق مع سلطات الاحتلال ويدير اقتصاداً ما زالت مفاتيحه كلها بيد سلطات الاحتلال، حكم إداري ذاتي، أثبت فشله في تحويل «السلطة الوطنية الفلسطينية» إلى محطة الانتقال إلى بناء الدولة المستقلة فبات ضائعاً يبحث عن «أفق سياسي» يبذل في سبيله ماء الوجه، بلا جدوى، يحلم بـ«حل الدولتين»، ولا حل، يناشد الوسطاء ولا من مجيب، يتوه بين «العقبة – شرم الشيخ»، ليجد نفسه في خضم حرائق حوارة، ونهر دماء نابلس، وجنين، وأريحا، وبيت لحم والخليل ورام الله، والقدس وما بينها من مدن ومخيمات وبلدات وقرى، حكم إداري عاجز، لسلطة عاجزة وفاشلة، باتت التذلل العنوان الرئيس لخطابها السياسي، وباتت الخدمات أبرز مهامها.
قرعت الطبول استعداداً للحملة الوطنية لإحياء الذكرى الـ75 للنكبة الوطنية الكبرى، حتى أن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، التي عودتنا أن تغيب في المحطات والملمات الكبرى (بما في ذلك محطة معركة «ثأر الأحرار» التي أقامت العالم كله واستنفرت جهوده، من الولايات المتحدة إلى العواصم العربية، إلى الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي) ... حتى أن اللجنة التنفيذية عقدت اجتماعاً خاصاً لا لشيء، سوى لتوجيه نداء إلى الشعب الفلسطيني تناشده في بيان لها أن يحيي ذكرى النكبة، وهو الذي لم يتقاعس يوماً واحداً، لا في تقديم التضحيات في الدفاع عن قضيته ولا في إحياء المناسبات الوطنية، حتى أنه تجاوز في مواقفه واستعداداته اللجنة التنفيذية التي تخلفت عنه وعن نضالاته، وكأن الشعب الفلسطيني كان بحاجة إلى هذا النداء، وإلى هذا الشكل الكئيب من التعبئة السياسية، كما ورد في البيان الصادر عن اجتماع اللجنة التنفيذية، وقد بات واضحاً أن هذه الغيرة كما هي واردة في البيان الختامي، كان مردها وهدفها، هو توريط الحالة الشعبية في صراع «الأضداد»، سلطة رام الله وسلطة غزة، أما العنوان فكان «مؤتمر مالمو» الذي دعت له حماس (وتدعو له سنوياً) وقد أحست سلطة رام الله بضعفها أمام نجاح هذا المؤتمر الذي حافظ على وتيرته السنوية (والذي كان للرئيس محمود عباس كلمة في دورته الأولى، وكالسفراء سلطة رام الله كلمات في دوراته اللاحقة، وكان لمصطفى البرغوتي الأمين العام للمبادرة الوطنية كلمة في دورته ما قبل مالمو) اللجنة التنفيذية ومن خلقها السلطة في رام الله أرادت من أحياء ذكرى النكبة أن تكون في سياق الرد على «مؤتمر مالمو»، وهذا بالطبع أسهم في انحراف بعض الأنشطة التي أشرفت عليها السلطة في رام الله، عن مسارها المطلوب.
الشعب الفلسطيني في أوروبا والأميركيتين والعالم العربي وأنحاء العالم، لم يكن بحاجة إلى نداء اللجنة التنفيذية، بل كان بحاجة إلى خطاب سياسي، يعبر عن حقيقة الموقف الشعبي كما رسمه في الضفة الفلسطينية، وفي الشتات: خيار المقاومة الشاملة، لا خيار التذلل، خيار فرض الحصار على دولة الاحتلال لا خيار الاعتراف بها والتعاون معها والالتحاق باقتصادها، ويسلك مسلكاً يحول القضية الوطنية الفلسطينية إلى مجرد تفاهمات أمنية مع حكومة فاشية.
جرى التذكير في الدعوة إلى أحياء ذكرى النكبة إلى أنها مناسبة لتظهير الرواية الفلسطينية في مواجهة الرواية الأخرى، وكأن العالم لم يدرك حتى الآن روايتنا الوطنية.
• أليست قرارات الأمم المتحدة اعترافاً بالرواية الفلسطينية، وفي السياق اعترافاً بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني.
• أليس اعتراف دول العالم بالدولة الفلسطينية (التي لم تقم بعد) هو في الوقت نفسه اعتراف بالرواية الفلسطينية.
نعتقد أن الأمر في حقيقته ليس في أن نعرف العالم بالرواية الفلسطينية، بل كيف نقدم للعالم هذه الرواية وأية سياسة نعتمد، لنؤكد صدقية وشرعية وعدالة هذه الرواية، وعدالة حقوق شعبنا.
• كيف نتصدى للرواية الصهيونية، وقد وقعت القيادة السياسية الفلسطينية في 9/9/1993 اعترافاً بحق إسرائيل في الوجود، أليست إسرائيل هي الترجمة للرواية الصهيونية؟ أليس اعتراف الجانب الفلسطيني بحق إسرائيل بالوجود هو اعتراف بصدقية الرواية الفلسطينية؟
• كيف نتصدى للرواية الصهيونية، ولإسرائيل، وندعو العالم لعزلها باعتبارها متمردة على قرارات الشرعية الدولية، وقد حولت السلطة الفلسطينية (هنا وهناك) الأراضي المحتلة، مستعمرات للاقتصاد الإسرائيلي.
• كيف نطالب العالم أن يحمينا من الاحتلال، ونحن نقيم معه تعاوناً أمنياً، جرى إعادة التأكيد عليه وتحديثه أو هندسته في مسار «العقبة – شرم الشيخ»؟
مرة أخرى، انفض السامر، وغادر الضيوف قاعة الاحتفالات في سفارات فلسطين، وأطفئت الشاشات، وعادت الفضائيات إلى برامجها المعتادة، ومرت الذكرى الـ75 للنكبة، وغاب عن بال الكثيرين أننا نعيش نكبات يومية نصنعها بأيدينا