الحقائق مثل العواطف
وهي عبارة للفيلسوف والشاعر الأميركي: ديفيد هارفي تور، تلخص هذه العبارة مضمون كتاب الرفيق الخمليشي ;جذور وسيرورة التحرر ، حيث لا نعثر على تلك الثنائية التي تفصل بين التفكير العقلاني وبين المشاعر في العقلانية الغربية. قرأت بتركيز شديد الجزء الأول من السيرة الذاتية – السياسية للرفيق الخمليشي بوبكر، واستخلصت منها عددا من الأفكار والرؤى التي تعكس في صورتها العامة تجربة معاشة بكثير من الشغف والطموح لولوج العمل الثوري منذ نهاية فترة السبعينيات. كانت هذه التجربة حسب ساردها توثق لمسارات حياة تنطلق من فترة الطفولة في منطقة ترجيست حيث عاش شغب الطفولة وبداية ترسيخ في اللاوعي أحداث سياسة كبرى، سيكون لها الأثر البالغ في تطوير وعيه السياسي، من بينها الحدث السياسي الكبير في عشرينيات القرن الماضي المتمثل في ثورة عبد الكريم الخطابي، ثم الحدث الثاني المتمثل في الاستقلال الشكلي سنة 1956، غير أن قمع انتفاضة 1958 سيتحول إلى جرح لن يندمل ، مما سيهيئ الرفيق الخمليشي لاكتساب وعي سياسي عفوي بطبيعة النظام المخزني الذي سيصبح موضوع تفكير سياسي عميق فيما سيؤول عليه المسار السياسي للرفيق الخمليشي بوبكر. من خلال هذا السرد لعدد من المحطات التاريخية والانتقالات المكانية من البلد الأصلي ترجيست إلى مختلف المدن المغربية لمتابعة الدراسة الثانوية، تشكلت عند الرفيق الخمليشي رؤية اجتماعية بطبيعة المجتمع المغربي، واستطاع أن يربط علاقات اجتماعية واسعة مع محيطه الاجتماعي من خلال اكتساب أصدقاء جدد، وتعلم حياة مستقلة بعيدة عن إكراهات العائلة، مما ساعده على تكوين شخصية مستقلة ستؤهله للعب أدوار سياسية فيما بعد، عندما تنضج شروط تكوينه السياسي فيما بعد انتهاء دراسته الجامعية بفالنسيا الإسبانية. لقد صقلته تجربته النضالية في فالينسيا بإسبانيا، وأصبح أكثر تأهيلا لخوض تجربة سياسية ذات طموح ثوري. ساعده في ذلك العلاقة التي ربطها بعدد من المناضلين اليساريين من مختلف الأقطار. وفي ظل الأوضاع السياسية التي تميزت بانقلابين عسكريين (1971-1972)، أصبح الرفيق الخمليشي أكثر استعدادا لولوج تجربة سياسية ثورية، وكان لبعض الرفاق الذين أطروه في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البلاد الأثر البالغ لاتخاذه قرار المساهمة في إعادة بناء منظمة إلى الأمام، بعد أن عصف النظام المخزني ببنيتها التنظيمية خلال سنوات 1972 و1974 و1975 و1976. بعد استكماله دراسته الجامعية، تم توظيف الرفيق الخمليشي كمهندس زراعي بالرباط ما بين 1975 و1977، وبسبب الفساد المستشري في القطاع، قدم استقالته، وانتقل للعمل في القطاع الخاص بالدار البيضاء، فخبر أزمة العمل النقابي البيروقراطي، وبعد فترة عاد للعمل كمهندس زراعي في القطاع العام، وتم تعيينه بالعرائش التي ستشكل تجربة سياسية متميزة في أطار تأسيس منظمة إلى الأمام. ما يميز ثلاثة أرباع من الكتاب هو سرد طويل لحقائق اجتماعية وسياسية، منذ نهاية الخمسينيات حتى فترة الثمانينيات التي تعتبر بحق فترة تاريخية وسياسية ستطبع التاريخ المغربي بمميزات خاصة. غير أن رواية الرفيق الخمليشي بوبكر لا تتوقف فقط عند هذه الأحداث، بل تقرأها من خلال حيوات تصنع تاريخ المقاومة الشعبية. تستدعي شخصيات سواء في فترة طفولة السارد، كشخصية المقاوم الريفي سلطين باعتباره آخر المقاومين في جمهورية الريف، وهو شيخ عتي اغتالته آلة الاجرام الإمبريالي، أو في فترة اكتسابه الوعي السياسي خلال فترة السبعينيات، عند ذكره لعدد من المناضلين الثوريين من مختلف الجنسيات التي صقلت تجربته السياسية، خصوصا عند فترة دراسته في فالينسيا، أو استقراره بالمغرب واحتكاكه بمناضلين قياديين ثوريين بمدن الرباط والدار البيضاء وتطوان والعرائش. هذه الشخصيات بصفتهم أصدقاء أو أفراد العائلة أو رفاق، يمنحها روحا جذلى، تتخلل يوميات التسكع والاحتفال بفرح الأمسيات الباذخة مع أصدقاء ورفاق يرغبون في مجتمع عادل خال من القمع والاستبداد. في حديثه العفوي عن هؤلاء يستعمل أسلوب الكتابة السينمائية التي تعتمد على تقنية الفلاش باك التي تربط الماضي بالحاضر، بخلفية التشبع برغبة حماية الذاكرة الجماعية، هذه الذاكرة التي يحاول النظام السياسي القائم طمسها. يذكر في هذه الفترة الصعوبات الجمة التي اعترضت إعادة بناء منظمة إلى الأمام، والدور التاريخي الذي لعبته طليعة ثورية مكونة من الرفاق: براهمة المصطفى، الشفشاوني عبد السلام، بلكحل حسن، الشهيد التهاني أمين ثم الخمليشي بوبكر، وممارسة النقد الذاتي الجماعي إزاء تقاعس التنظيم أمام انتفاضة 20 يونيو 1981، وترجمة هذا النقد عمليا في التعاطي مع انتفاضة 1984. لقد كانت النقاشات السياسية ساخنة جدا داخل هذه القيادة، وتعبر عن اختلافات كبيرة في التقدير السياسي للأوضاع، لكنها في نفس الوقت كانت تلتزم بتنفيذ الالتزامات السياسية المتفق عليها. يخص الرفيق الخمليشي بوبكر بعض الصفحات لرفيقه الأثير الدكتور محمد جعيدي، يعتبره شخصية متميزة ذات خصال متنوعة، ويحسبه نموذج المثقف الثوري الذي يفاجئك بقوة التحليل السياسي وبالتقدير الموضوعي لتطور الأحداث، وبالنأي عن الأفكار الجامدة والمتكلسة، وبالتشبث بالمبادئ الماركسية الجدلية. يثني أيضا على رفاق من القيادة الوطنية وعلى رأسهم الرفيق براهمة المصطفى الذي كان مهندس لعملية إعادة البناء منظمة إلى الأمام في نسحتها الثانية منذ نهاية السبعينيات مثلما يتحدث عن رفيقه الشهيد تهاني أمين ويذكر خصاله الثورية، دون أن ينسى جنود الخفاء وفي مقدمتهم الرفيق حسن سكاتوالذي لعب دورا قياديا في إعادة تأسيس منظمة إلى الأمام بمدينة العرائش في أوائل الثمانينيات، أو تنظيمه لعملية هروب الرفاق المبحوث عنهم إلى إسبانيا، بعد خضوعه لتدريب ميداني لاجتياز جبل سبتة وتعارفه الاجتماعي مع موظفي الجمارك. يتحدث الرفيق بوبكر عن ظروف تهريب الرفاق إلى الخارج، حيث تعرض لصعوبات اجتماعية جمة، خصوصا بعد أن كلفته قيادة المنظمة بإنجاز هذه المهمة المعقدة.
يشير أيضا الرفيق الخمليشي بوبكر إلى المخاطر التنظيمية التي كادت أن تعصف بالمنظمة، في الوقت الذي كان مسؤولا على إدخال مجلة إلى الأمام إلى المغرب بعد عودته التنظيمية من فرنسا. علاوة على ذلك، تحدث بإسهاب عن الخلافات التي برزت في فرع المنظمة بباريز على إثر اعتقال رفاق القيادة الوطنية، وقام بنقد ذاتي عن اتخاذه قرار العودة إلى المغرب رغم إقراره بالمخاطرة في ذلك، وعدم استشارته التنظيم للقيام بهذه الخطوة غير مدروسة. غير أن القصة الحزينة التي يرويها بكثير من الندم وفي نفس الوقت الاعتراف بدين انقاد حياته من قبل مفتشي الشرطة عند نقله من ميناء طنجة إلى المعتقل السري بدرب مولاي الشريف، لما حاول القيام بعملية الانتحار، خشية من إفشاء سر تواجد رفاق لم يعتقلوا بعد. تشكل تجربته في السجن تجربة غنية اجتماعيا وسياسيا، خصوصا عندما تم تنقيله إلى سجن طنجة بعد محاكمة أبريل 1986 بالدار البيضاء في أطار محاكمة 26، والتقائه بأبطال انتفاضة 1984 السجناء الشباب، وفي أغلبهم مناضلين في حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، وطلبة مناضلي حركة الطلبة القاعديين. يتحدث عن هؤلاء بحب وتقدير كبير، ويبرز من خلال نشاطهم الاجتماعي عن صفات محمودة، ويتألم لفقدان بعضهم بعد الخروج من السجن، ويفرد بعض السطور للحديث عن رفيقه الحميم سعيد القروي، وأشواط لعب الشطرنج وكرة القدم للتغلب روتين السجن، ويوميات القراءة والتكوين السياسي وهو البرنامج اليومي الذي بلوره الرفيق الخمليشي بصحبة رفيقه الأثير محمد جعيدي. وكخلاصة مركزة عن هذا الفصل، فقد أشار السارد لفترة نوعية سياسيا عشنا فصولها بالسجن المركزي بالقنيطرة أيام اجتياز الامتحانات، ويفرد بعض السطور لرفيقه الفقيد شباري عبد المومن الذي خبر طينته السياسية والاجتماعية، ولم يفته الحديث عن قضاء أوقات منظمة للنقاش والبحث في البرنامج الساسي الاستراتيجي والتكتيكي الذي أصبح جاهزا للاشتغال عليه بمجرد إطلاق سراح الرفاق، وهو ما سوف يشكل البرنامج الذي على قاعدته تأسس النهج الديمقراطي باعتباره الامتداد التاريخي لمنظمة إلى الأمام. في تنايا هذا الكتاب، نستكشف شخصية الرفيق بوبكر الخمليشي كطاقة للعمل والاندماج في الحياة الاجتماعية، تثير الدهشة والإعجاب، لكونه يسعى بطرق مختلفة إلى الاهتمام بالآخر، بشروطه الاجتماعية واحتياجاته النفسية، مما يسهل عليه تلقي القبول الاجتماعي لشخصيته المرحة في نشاطه المهني أو في علاقاته العامة، ساعدته هذه الصفات الاجتماعية في خوض غمار تجربة العمل السياسي وتحمله مسؤولية القيادة السياسية عند إعادة بناء منظمة إلى الأمام. في خضم الكتاب أيضا، نقرأ بين صفحاته حديث مشوق وحزين عن الأم والأب والإخوة، حديث فيه نبرة تدل على ندم الفراق في شروط كانت قاسية على الرفيق لحضور جنازة والدته، أو لعدم الاهتمام الكافي بأخيه الصديق وأخته أمينة المتوفيين عندما كانا يمران بوضعية صعبة خطيرة. كانت كلماته المشحونة بحزن عميق إزاء فراق أحبته تعبرعن استرجاع دين كبير والوفاء به من خلال هذا البوح الشفيف. تسمح هذه الإطلالة العامة على الكتاب باستنتاج مهم، وهو أن أحد صناع إعادة بناء منظمة إلى الأمام في فترة الثمانينيات ، تمكن أخيرا من التعبير عن سيرته الشخصية والسياسية التي ستسعف الأجيال المقبلة من الاطلاع على تجربة سياسية مطموسة ، واستطاع الرفيق بوبكر الخمليشي أن يسلط عليها الضوء بكثير من السرد الواقعي المشحون بعواطف جياشة تعكس حقيقة شخصية الرفيق الخمليشي ، وفي ذات الوقت حقيقة طبيعة الأوضاع التي سادت خلال الفترة التي تناولها الكاتب بخلفية اجتماعية وسياسية.