المنظومة العربية والنهاية المأساوية
■ منذ فترة غير قصيرة، فقدت اهتمامي بأخبار جامعة الدول العربية وبياناتها، بما في ذلك تصريحات أمينها العام، لأنها برأيي تشكل مجرد مرآة عاكسة لمنظومة عربية، دخلت عليها تحولا ت كبرى، أصابتها بالعطب الشديد، وأوهنت قواها، ومزقت صفوفها، وصار كثيرة من فرقائها تاليًا للشرح الأميركي في «دمج» إسرائيل في المنطقة العربية، وتعميم التطبيع فيها، وإعادة صياغة المعادلات، بحيث تصبح إسرائيل دولة حليفة للعرب، في مواجهة الخطر المزعوم، القادم على اليمن إلى لبنان وإلى سوريا. المنطقة من الجمهورية الإيرانية الإسلامية، وحلفائها في المنطقة، من فلسطين إلى العراق إلى لكن فضولي دفعني هذه المرة، لأن اطلع على البيان الصادر عن الاجتماع الأخير لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين، وجدت فيه مادة غنية بالكلام الإنشائي عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وتضحياته، كلام صيغ بالقدر الزائد من النفاق والكذب، لينتهي إلى استجداء الولايات المتحدة والتذلل لها، طمعًا في كرمها لتضغط على دولة الإبادة الجماعية في إسرائيل، لتوقف عدوانها على قطاع غزة، حيث يموت (يستشهد) الفلسطينيون أطفالا ً ونسا ًء ومسنين، يوميًا ب
المئات.
طبعًا، صيغ هذا البيان بحضور مندوب دولة فلسطين، التي تنوب عنها السلطة في رام الله، و المطبخ السياسي في مقر الرئاسة، ولا غرابة في انسجام الموقف الفلسطيني مع البيان، فالسلطة الفلسطينية، وكما قال عباس زكي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، تحولت إلى جزء من النظام العربي الذي تسلل إلى صفوفه العطب والعفن، فضلا ً عن أن بيان مجلس المندوبين يعبر بصدق ، إلى حد كبير، وإلى حد التطابق، مع موقف وسياسة السلطة الفلسطينية ومطبخها السياسي، التي ما زالت تراهن على الوعود الأميركية، وعلى الدور الأميركي في حل القضية الفلسطينية، وعلى المشروع الأميركي الموعود (حتى إشعار آخر) المسمى «حل الدولتين»، كما أن السلطة وكما عبر عنها بوضوح شديد، وزير خارجيتها (المعلقة مهامها لصالح المطبخ السياسي) لا ترى إلا في ما يسمى «المقاومة السلمية» سبيلا ً إلى الحل مع إسرائيل، في موقف يعبر عن سلبية السلطة الفلسطينية من الخيار الشعبي الطاغي لصالح المقاومة بكل أشكالها، بما في ذلك المقاومة الفلسطينية مع دولة الاحتلال في قمعها في أنحاء الضفة الغربية. المسلحة، والتي كما عودتنا السلطة في بياناتها الرسمية، هي «عنف إرهابي» تتعاون السلطة
نحن لا نلوم مندوبي الدول العربية في مجلس الجامعة، فهؤلاء مجرد موظفين، يحمل كل منهم رتبة سفير، بكل ما في هذه الرتبة من امتيازات، وبالتالي هم يأتمرون بعواصمهم التي تملي عليهم
مواقفها.
لقد سبق وأن انعقدت في 11/11 من العام الماضي، قمة عربية إسلامية في الرياض، برئاسة العربية السعودية، واتخذت قرارات منها الوقف الفوري للحرب على القطاع، وإمداد سكانه بكل حاجاتهم الحياتية (طبعًا دون الإتيان على ذكر المقاومة) مع تحميل الجانبين الفلسطيني والإ سرائيلي، مسؤولية ما لحق بالمدنيين من أذى، في مساواة (صمت عنها الوفد الفلسطيني وتواطؤا معها) بين القاتل والقتيل، والمجرم والضحية، في خلاصة تضع العملية البطولية «طوفان الأ قصى» في خانة العنف والإرهاب، وعلى الدوام، وبما يتطابق مع جوهر سياسة السلطة الفلسطينية، أقصى ما أسفرت عنه «قمة الرياض» المشتركة، هو تشكيل لجنة من وزرائها من
الطرفين العربي والإسلامي، قامت بجولة سياحية في العديد من العواصم، لم تسفر عن شيء ملموس، وعاد أفرادها كل إلى موقعه، بعضهم التزم الصمت، وبعضهم الآخر أكد وفاءه لمشروع تعميم التطبيع العربي – الإسرائيلي، متوقعًا من الجانب الأميركي وقف العدوان، في تبرئة للذات، وإعفاء النفس عن أي مجهود ذي مغزى وعمل ذي تأثير، لدعم الفلسطينيين وبلسمة جراحهم. شكلت هذه المحطة الفارقة (القمة العربية الإسلامية في الرياض) صورة لما أصبحت عليه
منظومة الدول العربية، والمؤسسة التي تجمعها.
كتلة، على رأسها العربية السعودية، بات التطبيع خيارًا لها، انسجامًا مع المشروع الأميركي، وكتلة أخرى، تتخذ موقفًا سلبيًا من التطبيع (بل وتجرمه أحيانًا) لكنها تضطر إلى التأطير والتنسيق فيما بينها، خاصة وأن معظمها يعاني أوضاعًا داخلية غير مستقرة، فرضت عليها الانشغال عن الهم الإ
قليمي لصالح الهم المحلي.
وبالتالي، سقط الرهان على دور ما، مؤثر للمنظومة العربية، وقد وصلت بعضها في سلبيتها، إلى حد أنها امتنعت عن دعم شكوى دولة جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، حرصًا منها على حسن علاقاتها مع الولايات المتحدة، وحتى لا تقطع خيوطها وخطوطها الخلفية مع
دولة الاحتلال.
بل، والأنكى من هذا، أن بعضها وقف إلى جانب إسرائيل، بعدما تأثرت أوضاعها الاقتصادية بقرار اليمن منع عبور السفن الإسرائيلية أو المتجهة إلى ميناء إيلات عبر البحر الأحمر، فقد أكدت الصحف الإسرائيلي أن إسرائيل استعاضت عن البحر الأحمر باللجوء إلى مينائي دبي وأبو ظبي، لاستيراد البضائع، تستوردها عبر البر، عن طريق جديد للشاحنات يمر عبر دولة الإمارات، والعربية السعودية، والأردن، فالأرض المحتلة، ومع أن بعض هذه الدول نفى خبر الممر البري، إلا أن صحف إسرائيل أعادت التأكيد عليه، مستندة لعدد الشاحنات التي مرت عبر هذا الطريق المستحدث، و في «تحالف أبراهام». الذي أشرك العربية السعودية في التطبيع العملي، رغم ادعاءاتها واشتراطاتها المزعومة للانخراط كخلاصة، يتوجب القول أننا بتنا أمام منظومة عربية، مقيدة بمعاهدات واتفاقات وتفاهمات مع إسرائيل، ومع الولايات المتحدة، أخرجتها من دائرة الدعم الفعلي للقضية الفلسطينية، بل أخرجتها من دائرة الحرص على الحقوق الفلسطينية، ولولا «طوفان الأقصى»، لخطت العربية السعودية خطوات كبرى في مسار تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، بما يسقط مبادرة السلام العربية كما تقدمت بها العربية السعودية نفسها، ويلقي بها في سلة المهملات، وبما يفتح في الوقت نفسه، «طوفان الأقصى» والصمود الفلسطيني، أعاد صياغة المعادلات في الإقليم. الباب أمام تعميم تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية، ودمج دولة الاحتلال في الإقليم. ولعل هذا ما يغيط العديد من زعماء العرب
■معتصم حمادة عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين