حول مسار ثورة أكتوبر 1917 الروسية وتناقضاتها
مسار ثورة أكتوبر الاشتراكية الروسية؟ هل يستفيد اليسار الراديكالي المغربي من (فصل من كتاب سيصدر في ربيع 2023)
- الثورة الروسية تبلورت عبر صيرورة تاريخية بقيادة مجموعات ثورية ماركسية روسية توحدت في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي كحزب ثوري اشتراكي سنة 1898 في مدينة مينسك. وتوحدت داخل الحزب عدة منظمات ثورية: ثلاث منظمات: مجموعة رابوتشايا غازيتا من كيـيف و"اتحاد النضال من أجل تحرير الطبقة العاملة" (لينين وبليخانوف)، و"موسكو وإيكاترينوسالف" ومجلة عمال كيـيف، و"االتحاد العام للعمال اليهود" البوند، الذي أنشئ في عام 1897.
كان تدبير الصراع السياسي والنظري بأساليب ديمقراطية بين تيارات الحزب. وساد نقاش وجدل سياسي ونظري نوعي متقدم داخل الحزب رغم اختلاف الرؤى السياسية والنظرية وتناقض المواقف والتكتـيكات. وتـبـنى "حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي" برنامجا ماركسيا وفقا لتحليله لواقع المجتمع والبروليتارية الروسيين الملموسين وهيمنة الإنتاج الزراعي الصغير في روسيا. إلا أن الإمكانات الثورية الحقيقية تكمن في واقع البروليتاريا الصناعية وفي نضالها َوالثوري مع توسع الصناعة والرأسمال الإمبرياليـيـن في روسيا.
خلال تطور الحزب نظريا وسياسيا تشكل تياران كبيران خلال المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بين 30 يوليوز و23 غشت سنة 1903، تياران متسلحان بنظرية ماركس إنجلز وبممارسة ثورية. وكان التناقض بينهما تناقضا حول التكتيك السياسي وتناقض حول الخط السياسي وطبيعة الثورة الديمقراطية واستراتيجية وهدف الثورة. هل الهدف هو ثورة ديمقراطية برجوازية وفق تصور المنشفيك ( (Les Mencheviks ، أم ثورة اشتراكية كما يطرح البُلْشُفِيكْ (Les Bolcheviks).
تيار الأغلبية بزعامة لينين أسس حزب البلشفيك (الأكثرية)، وهم اشتراكيون ديمقراطيون شباب أمثال تروتسكي، زينوفيف، كامينيف، ستالين إلخ...، استطاع الحزب يقود في بداية القرن العشرين أن يوسع تأثيره بانخراط آلاف الأعضاء، وقد أشار إلى هذه الإحصائيات توني كليف نقلا عن لينين. وطرح البلشفيك أن الشرط الموضوعي للثورة الديمقراطية الاشتراكية متوفر وأن الثورة ضرورة موضوعية وأن على الحزب أن يقود الثورة لكي تستولي البروليتاريا وتحالفها مع الفلاحين الفقراء والجنود.
انتصار ثورة جماهير شعوب روسيا في أكتوبر 1917 بقيادة الحزب البلشفي حقق نقلة نوعية في نضالات تحرر البروليتاريا وشعوب روسيا القيصرية وكل الشعوب المضطهدة في العالم. بذلك كان للثورة الروسية أفق ثورة ببعدها الأممي. فقد تحولت صيرورة هذه الثورة بعد تنازل القيصر عن السلطة من ثورة ديمقراطية برجوازية في فبراير 1917 إلى ثورة اشتراكية تقودها البروليتاريا متحالفة مع الفلاحين الصغار والكادحين والجنود في السوفياتات الشعبية بقيادة الحزب البلشفي الثوري كما أكد لينين. أما البرجوازية فلم تكن ثورية وكانت ضعيفة ومتحالفة مع النظام القيصري الأوتوقراطي.
كان تيار المنشيفيك (الأقلية) من جهته بزعامة يوليا أوسيبوفيتش مارتوف يطرح أن الثورة ثورة ديمقراطية بقيادة البرجوازية، فشارك حزب المنشيفيك في الحكومة المؤقتة التي ترأسها ألكسندر كيرينسكي والتي حاولت حكم البلاد وإنجاح الثورة الديمقراطية البرجوازية ببرمجة المؤتمر التأسيسي لصياغة أسس ومبادئ الدولة الديمقراطية.
وبعد تنازل القيصر عن العرش في ربيع عام 1917 هيمن حزب البلاشفة داخل السوفياتات بعد انتخاب ممثلي البروليتاريا للسـوفياتات. ومكنته هذه الهيمنة من قيادة انتفاضة الجماهير وتحويلها إلى ثورة أكتوبر الاشتراكية التي أطاحت بحكومة ِكيرينسكي في 01 أكتوبر 1917. اختلف البلاشفة والمناشفة حول مبدأ وهدف الثورة والخط السياسي وعضوية التنظيم. البلاشفة استطاعوا أن يتحولوا من حزب "ثوريين محترفين" إلى حزب بروليتاري ديمقراطي واشتراكي جماهيري. أما المناشفة كفصيل من الحركة الثورية الروسية التي تأسست سنة 1904. وتزعم مارتـوف تيار المنشيفيك، ويعتبر الحزب "حزب الشعب". وسياسيا يؤكد المنشفيك أنه من المفروض التعامل مع المعارضة الليبرالية التي كانت مهيمنة خلال الثورة الديمقراطية في فبراير 1917. وقد حدثت تناقضات قوية بين البلشـفيك و المنشفيك منذ المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الذي انعقد في بروكسيل- لندن بين 30 يوليوز و23 غشت 1903 حول المسائل التنظيمية والسياسية، ثم حول طبيعة ثورة سنة 1905 بعد إفلاس أغلب قيادات الاشتراكية الديمقراطية الأروبية، وحول التحالفات الطبقية، والديمقراطية البرجوازية. فالبلاشفة كان لهم تصور نقدي راديكالي في مسالة الثورة البرجوازية الديمقراطية، أما المنشفيك فكانوا يتصورون أن مرحلة الديمقراطية الليبرالية ضرورة تاريخية. ومع ذلك، حاول لينين باستمرار تجنب الانقسام، وضمان الحقوق الديمقراطية الكاملة للمنشيفيك داخل الحزب. لكنهم كانوا يرفضون أي حل وسط. وتتمثل أهم التناقضات بين البلشفيك والمنشفيك كما يلي: تناقض في مفهوم وتشكيلة الحزب • رؤية البلاشفة للحزب: الحزب مجموعة محددة من الثوار المحترفين: المنضبطين. • رؤية المنشيفيك للحزب: الحزب، حزب جماهيري متماسك، منفتح ديمقراطي بدون انضباط وتنظيم فضفاض ومنظم بشكل عير مركزي.
تناقض في نظرية وتطبيق الاشتراكية • يعتقد البلاشفة، كماركسيين ثوريين، أن البروليتارا الروسية وفئات الشعب الكادح مستعدون منذ بداية سنة 1917 للثورة وللاستيلاء على السلطة لبناء الاشتراكية و التطور نحو مجتمع شيوعي. • في حين يعتقد المنشيفيك، وهم كذلك ماركسيون، ويؤمنون بتحقيق الديمقراطية الليبرالية ثم الانتقال إلى الاشتراكية عبر مؤسسات الدولة البرجوازية، وأن البلاد ليست مستعدة للثورة الاشتراكية بل لثورة ديمقراطية تقودها البرجوازية، ويعتبرون أن شروط استيلاء الحزب الثوري على السلطة غير متوفرة وأن عليهم أولا تطوير الرأسمالية وقوى الانتاج في البلاد خلال مرحلة الرأسمالية لتوفير شروط تحقيق الشيوعية.
- تناقض حول مسالة العنف: • لم يتردد البلاشفة في استخدام العنف الثوري ضد عنف النظام القيصري، وضد الثورة المضادة لفتح الطريف لتحقيق أهداف الثورة الاشتراكية. ومع ذلك كان لينين يحاول أن تتفادى الثورة بالعنف، إذ كتب في سبتمبر 1917 حين رفع شعار "كل السلط للسوفييت" ، "أن النقل الفوري لجميع السلط إلى السوفييتات (Tous les poucoirs aux Soviets) هو وحده الذي سيجعل الحرب الأهلية مستحيلة في روسيا. وكان لينين خاطئا لأن الحرب الأهلية (1917 - 1923) كانت عنيفة بين الثورة والثورة المضادة. ". • أما المنشيفيك فكانوا ضد استخدام العنف.
تناقض في التعامل مع المنظمات الموازية • تصور البلشفيك يطرح ارتباط المنظمات الأخرى مثل النقابات العمالية وغيرها عضويا بالحزب. • أما المنشيفيك فإنهم يعتبرون أن تواجد الحزب في هذه المنظمات كافي دون ربط المنظمات الموازية بالحزب.
توسع النفود السياسي للحزب البلشفي
في بتروغراد خلال سنة 1914 كان يعيش ما يزيد قليلا عن مليوني نسمة، 27 ٪ منهم كانوا عمالا (بالمعنى العام للمأجورين). ومن بين هؤلاء يمثل العمال الصناعيون بالكاد 10 ٪ من إجمالي سكان معقل ثورة أكتوبر، أي 000 23. وتعمل في البيوت حوالي 260 ألف عاملة منزلية. لكن قوة هذه البروليتاريا الصناعية لا تعود أساسا لقوتها العددية ، بل من الثقة بنفسها ومن وعيها الطبقي المكتسبين من خلال الممارسة المتجددة للتنظيم في الصراعات الاجتماعية. وتعززت قوة البروليتاريا بعلاقاتها بالمناضلين الثوريين من مختلف الاتجاهات الذين مكنوها من الوعي الطبقي ومن ومهمتها الثورية لتحرر البروليتاريا وعموم الكادحين والمجتمع من استبداد النظام القيصري ومن الاستغلال الطبقي. وهذا ما تجسد في سوفييتات العمال والفلاحين والجنود.
مسار انتصار ثورة أكتوبر 1917 لم تكن صيرورة الثورة الروسية، منذ تأسيس حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي، خطا مستقيما بل عرفت مدا وجزرا وهزائم كهزيمي 1905 و1909، وانتصارات في كيب ثقة البروليتاريا والفلاحين الفقراء وعموم الفئات الشعبية. كما عرفت خطوات إلى الوراء وتقدما إلى الأمام وأخطاء يتم تقييمها في صيرورة الصراع الطبقي والصراع السياسي والنضال الثوري المستمر، ويتم إعادة النظر في الخط السياسي وبلورة البدائل الثورية التي توحد البروليتاريا والفلاحين والجنود وتطور صيرورة الثورة. ستـتواصل مضاعفات هزيمة الثورة 1905. فقد تعرض، بعد ذلك، آلاف الثوار، فلاحون وعمال وغيرهم لأحكام بالإعدام، بل وتم اغتيال المنتفضين واعتقال آلاف المناضلين أو نفيهم إلى سيبيريا. وتواصل طيلة سنوات 1909-1911 اعتقال أعضاء من اللجنة المركزية للحزب الذين استمروا في النضال داخل روسيا. واستطاع أعضاء آخرون مغادرة روسيا، من ضمنهم لينين. فقد كان القيصر يأمر جنوده وشرطته بإطلاق الرصاص على الجماهير المنتفضة، مما أدى إلى سقوط أكثر من ألف قتيل وآلاف الجرحى خلال انتفاضات 1905، 1909 وصولا إلى 1911. في واقع القمع القيصري المعمم استمر النضال الثوري وتطور الوعي الطبقي للبروليتاريا وللفلاحين الفقراء وللجنود ولجماهير الشعب. لكن هزيمة ثورة 1905 استبدت بوعي وبممارسة عدد من أعضاء التنظيمات الثورية بما فيها الحزب البلشفي. وغير عدد من الثوريين مواقفهم، وغيروا خطهم السياسي الثوري بخط سياسي إصلاحي، وانخرط المنشيفيك والاشتراكيون الثوريون وبعض البلاشفة، عبر الانتخابات، في برلمان النظام القيصري (الدوما). ووفقا لتروتسكي، فإن احتلال السلطة أسهل في بلد يكون فيه النظام ضعيفا، كما كان الحال في روسيا في عام 1917، ولكن من ناحية أخرى فإن الوضع بمجرد الوصول إلى السلطة يكون أكثر صعوبة بالنسبة للثوار، في حين أنه في بلد رأسمالي متقدم يكون العكس. ومن الضروري وجود وضع ثوري، تـتـزعزع فيه الهيمنة البرجوازية. وغالبا ما تكون الأزمات الاقتصادية هي التي تفضي إلى فترات ثورية يمكن أن تهدد نظام الرأسمالية. وهذا ما عبر عنه ماركس مؤكدا أنه عندما تصل قوى الإنتاج المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في تناقض مـع علاقات الإنتاج القائمة ومع علاقات الملكية التي كانت تتحرك في إطارها في ذلك الوقت. وتتغير هذه العلاقات التي تحجز الأشكال التطورية للقوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة ثورة اجتماعية. سوف يسعى الاشتراكيون الديمقراطيون في روسيا كماركسيين ثابتين إلى إنشاء الأداة التي تخدم تحويل عالم لا يريدون تفسيره فقط بل تغييره كما طرح ماركس. لذلك بلور لينين صيرورة بناء الأداة السياسية الثورية في منفاه وبلور تصوره في كراس "مهمات الاشتراكيين الديمقراطيين الروس". وأنهى هذا التصور بِنداء يَـحُثُّ الثوريين أن لا يضيعوا وقتا ثميناً! : "إلى العمل، أيها الرفاق! فعلى الاشتراكيين-الِديمقراطيين الرُّوس أن يبذلوا جُهدا هائلاً لتلبية حاجات البروليتاريا ً الثي تستيقظ، لتنظيم الحركة العُـمّاليَّة، لتعزيز الجماعات الثورية وصلاتها المتبادلة، لتزويد العمال بتصور الدعاية والتحريض، لحشد الحلقات العُـمّاليَّة والفرق الاشتراكية-الِديموقراطية، المبعثرة في جميع أنحاء روسيا، في حزب عمالي اشتراكي-ديمقراطي واحد". كان لينين يلـتقي عمال الحزب البلشفي المناضلين سريا ليناقش معهم القضايا السياسية والتكتيكية والتنظيمية التي تواجه نضالهم، وكان يكـلـف العمال الرفاق الموثوق بهم بمهام تنظيمية وسياسية ويستعين بهم كمصدر لتطور النضال العمالي ولبلورة أخبار ومواقف لجريدة "الإيسكرا". وبالتالي استمر لينين في علاقات منظمة لينين واتصال دائم ومنتظم مع عدد من العمال الطليعيين.
استخلاص دروس الحركة الثورية والاستفادة منها استخلص البلاشفة أهم الدروس الثورية من المرحلة والصيرورة الثورية بين 1905 و 1917، ومن الصراع بين البلاشفة من جهة والمناشفة والشعبويين (الاشتراكيون الثوريون) من جهة ثانية خلال هذه المرحلة. وتجلت قدرة مختلف تنظيمات الأحزاب على التنافس لاستقطاب طليعة الحركة العمالية المنظمة داخل "مجموعات العمال" وفي النقابات العمالية وفي السوفياتات. ولكن مع أزمة الحركة الثورية بعد هزيمة ثورة 1905، لم ينتعش نضال وكفاح العمال، مرة أخرى، إلا مع تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية مع بداية من سنة 1912، ثم مع بداية الحرب العالمية في صيف عام 1914. وضعت سنوات الحرب عراقيل أمام نضال وإضرابات العمال الاقتصادية وأمام ممارستهم السياسية الثورية. لكن خلال الشهرين الأولين من عام 1917 سيَستأنف الثوار الماركسيون نضال وتحريض العمال على خوض إضرابات بشكل متواتر. وتبلورت فترة انتعاش وتوسع الحزب البلشفي بين سنتي 1912 و1914. وفي أقل من سنتين ونصف، وحدت جريدة "برافدا" البلشفية 5674 مجموعة من مجموعات العمال، وحققت توسع قرائها الذي وصل عددهم إلى أكثر من 000 40 عامل وعاملة. وبالمقابل وصل المنشيفيك إلى تنظيم 1421 مجموعة عمالية فقط. وعلق ليـنـيـن على ذلك "إن هذه مجرد بداية. نحن لسنا بحاجة إلى الآلاف من مجموعات العمال. يجب زيادة العمل عشرة أضعاف". اندماج الحزب والجماهير بين فبراير وأكتوبر 1917 عرفت الثورة الروسية، مرحلتين، ثورة فبراير 1917، وهي ثورة ديمقراطية برجوازية، وثورة أكتوبر الاشتراكية في نفس السنة. وجسدت ثورة فبراير نضال الحركة الاشتراكية الديمقراطية بمختلف توجهاتها مع جماهير العمال والفلاحين المناهضة لسلطوية نظام القيصر والفيودالية زمع الجنود لمناهضة الحرب الامبريالية. لكن سيتضح أن ثورة فبراير لم تكن سوى ثورة أوهام الديمقراطية البرجوازية وأوهام أحزاب إصلاح النظام القيصري. لذلك اتضح أن ثورة فبراير البرجوازية عاجزة على تحقيـق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. كما اتضح أن الصراع الطبقي السياسي والاجتماعي الذي خاضته جماهير الشعب أنضج الشرط الموضوعي لوصول البروليتاريا إلى السلطة. واكتسبت جماهير العمال والفلاحين والجنود، خلال الصراع الطبقي، الوعي بأن صيرورة نضال هذه الجماهير بقيادة حزب ثوري كقيادة وحيدة ستحقـق أهداف الثورة. لذلك مارس البلاشفة نضالا مريرا لبناء المنظمة السياسية التي تشكل طليعة العمال والفلاحين الفقراء والجنود وتُوَحِّدً الجماهير الشعبية. ودافع لينين ورفاقه الأساسيين عن هذان الخط السياسي الثوري والممارسة التنظيمية الثورية وناضلوا من أجلهما، لأنهم أدركوا قبل أي من التنظيمات الثورية والإصلاحية الأخرى الحاجة إلى الاستعداد للاستيلاء على السلطة كي تنجح ثورة البروليتاريا في تحقيق أهدافها. كما ناضل لينين ورفاقه بجدالهم السياسي وبمواقفهم الثورية لتوحيد البلاشفة سنة 1917 وتوحيد المنظمات العمالية. فبعد مؤتمر أبريل والمؤتمر السادس في يوليوز 1917، تضاعف عدد أعضاء الحزب من 79 ألف عضو وعضوة إلى 170 ألف. وأدرك لينين أن نجاح صيرورة الثورة تكمن في العلاقات السياسية الديمقراطية بين الطليعة الحزبية العمالية والمثقفة وبين الجماهير كي تتجاوز هذه الجماهير عفوية نضالها الطبقي وتوحده داخل السوفييتات ولجان تنظيمات المصانع والنقابات العمالية لنشر الوعي الثوري. إذ قبل ثالثة أشهر ونصف من الثورة نظم عشرون مليون مواطن ومواطنة أنفسهم في السوفياتات. وتشكلت 305 سوفييتات محلية في منتصف يونيه 1917 و53 سـوفييتات إقليمية ومنظمات عسكرية ومنظمات الفلاحين. وأصبحت الأغلبية الساحقة للبروليتاريا منظمة في سوفيـيتات العمال. وبالتالي، أصبحت هذه السوفيـيتات تشكل سلطة بديلة للسلطة القيصرية. وهذا الواقع والتاريخ يفند ادعاءات السياسيين اليساريين الإصلاحيين والمؤرخين البرجوازيين المناهضين للثورة الاشتراكية الروسية والذين يعتبرون ثورة أكتوبر 1917 الاشتراكية انقلابا لينـيـنـيا وليست ثورة بروليتارية شعبية. لم يكن تحقيق مهام الثورة الاشتراكية سهلا، بل إن تعقيدات مسار الثورة التي واجهـها الحزب البلشفي دفعتهم إلى بلورة وممارسة قرار ومبادرة الكفاح من أجل المصالح الحيوية للطبقة العاملة والفلاحين الكادحين والجنود ومواجهة الفوضى الاقتصادية والتخريب المؤسسي والإداري الذي نتج عن الحرب الأهلية. وانظمت الجماهير بسرعة أكبر إلى لجان المصانع العمالية والتنظيمات الثورية. وستشكل هذه اللجان القوة الثورية التي واجهت سياسة وقمع حكومة كرانسكي البرجوازية المدعومة بممثلي المنشيفيك والاشتراكيين الثوريين. وخلال صيرورة ثورة فبراير البرجوازية وثورة أكتوبر الاشتراكية، تصاعدت الإضرابات العمالية والمظاهرات بعد ثورة فبراير 1917. حاول القيصر إخضاع هذه النضالات بالعنف، إذ أطلقت الشرطة والجيش النار على الجماهير، مما أسفر عن مقتل أكثر من مائة وخمسين متظاهرا. لكن ستـتضامن قوات الشرطة والجيش مع الثوار. ومع تصاعد حجم المظاهرات، سيتخلى نيكولا الثاني عن العرش لصالح أخيه الأكبر ميخائيل ألكسندروفيتش رومانوف. ورغم تخلي نيكولا الثاني عن الحكم استمرت الاحتجاجات الشعبية وتصاعدت، مما أُجْبِـرَ هو الآخر على التخلي عن التاج، فانهار النظام القيصري الروسي.
كل السلـط للسوفييت على إثر انقلاب فاشل قاده الجنرال كورنيلوف الذي كان محاولة يائسة من قبل القوى الرجعية في غشت/سبتمبر 1917 لـضرب الثورة الروسية، بلور لينين والبلاشفة موقف مناهضة الجنرال كورنيلوف ومواجهة حركته للإطاحة بكيرينسكي دون الوقوع في خطأ دعم سياسي لحكومة هذا الأخير. وقـرر البلاشفة الذين أصبحوا يشكلون الأغلبية في سوفييت أكبر مدينتين، بيتروغـراد وموسكو، أن الظرفية أصبحت ناضجة لـنجاح الثورة الاشتراكية. لذلك أطلق لينين شعار "كل السلط للسوفييتات". وبين يونيو وسبتمبر 1917 شكلت االسوفييتات شكلا متقدما من تنظيم سلطة الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والجنود وعموم الجماهير الكادحة. لكن ستـتـبـلور ازدواجية السلطة بين سلطة مجالس السوفياتات وسلطة الحزب البلشفي الثوري بقيادة لينين الذي كان الموجه السياسي الأساسي للاستيلاء على السلطة تجسيدا لسلطة البروليتاريا رغم تشكل معارضة داخل الحزب البلشفي نفسه، خصوصا من طرف كامينيف وزينوفييف، إضافة إلى معارضة نقابتين عماليتين منتمتين للبلاشفة، بـمبـرر استقلال الطبقة العاملة التي عارضت سلطة السوفييتات منذ سبتمبر 1917. في حين كان الوضع يفرض اندماج عضوي بين الحزب الثوري وسوفياتات الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والجنود والمنظمات الشعبية والجماهير. نشا الخلاف بين المناشفة والبلاشفة حول طبيعة وأهداف الثورة مرحليا واستراتيجيا. كانت رؤية المناشفة تعتبر أن الثورة، ثورة ديمقراطية بقيادة البرجوازية ستمكن من القضاء على المجتمع الفيودالي، ورفضوا تحالف العمال والفلاحين، واعتبروا أن الثورة البرجوازية ستطور البروليتاريا نضالها الديمقراطي وستهيئ شروط صيرورة الثورة الاشتراكية. في حين تبلورت رؤية البلاشفة للمرحلة على أنها مرحلة ثورية لتجاوز مرحلة روسيا القيصرية. وفي هذه المرحلة كانت طبقة البرجوازية بالنظر لضعفها وتخلفها السياسي غير قادرة على قيادة هذه الثورة وإنجاز دولة ومجتمع ديمقراطيين. كما شدد البلاشفة على ضرورة تحالف طبقة العمال وجماهير الفلاحين الفقراء، بقيادة الحزب الثوري لإنجاز مهام الثورة الديمقراطية وصيرورة تحولها الاشتراكي. "إن الـمسألة الأكثر أهميـة في أي ثورة هي مسألة السلطة"، كان هذا الموقف هو جوهر تفكير لينين باستمرار طيلة الصيرورة الثورية، إذ لا يمكن أن تجد الثورة حلا إلا عندما ما تنخرط جماهير العمال والفلاحين الفقراء والكادحين والجنود في عملية الاستيلاء على الدولة البرجوازية لتفكيكها وبناء سلطة البروليتاريا والديمقراطية البديلة، ديمقراطية البروليتاريا. وهذه المهمة النوعية لا يمكن تحقيقها إلا إذا اكتسبت جماهير البروليتاريا والفلاحين الفقراء والجماهير الكادحة الوعي الثوري وشَكَّلَتْ هي نفسها طلائعها في قيادة التنظيم الثوري. نجحت الثورة الاشتراكية وهيمن الحزب البلشفي على السلطة وبدأ في تفكيك أجهزة الدولة البرجوازية وبقايا البنيات الفيودالية القيصرية. خاص لينين نضالا قويا منذ أبريل 1917 دفاعا على "موضوعات أبريل" التي بلولرها من أجل استعادة الحزب لقوته، وِفـْـقَ رؤية ماركس الذي أكد أنه "يصبح للفكرة قوة عندما تستولي على الجماهير". وبالتالي فنضال لينين في واقع المد الثوري الشعبي جعل كل من الـتوفـيقـيـين المنشيفيك والاشتراكيين الثوريين والنقابات العمالية المعادية وتيار المتردين داخل الحزب البلشفي عاجزين على أن يشكلوا عقبة ضد الجبهة الموحدة للبروليتاريا لأنهم أدركوا، في آخر لحظة، أن الصراع الطبقي يرجح مسألة استيلاء سوفييتات البروليتاريا وجماهير الفلاحين والجنود على السلطة كلها. وبالتالي، لأول مرة في تاريخ الحركة العمالية، أعطى نجاح ثورة أكتوبر 1917 إجابة حاسمة لتجاوز عفوية نضال الجماهير ولتجاوز أوهام إصلاح ديمقراطي للنظام الاستبدادي ولأوهام نظام الديمقراطية الليبرالية. وبالتالي تم تحقـيـق وحدة الوعي الثوري والممارسة الثورية بقيادة حزب ثوري ، الحزب البلشفي البروليتاري. تحررت خلال الأشهر الأولى التي تلت أكتوبر 1917 طاقات طبقة البروليتاريا وعموم الفلاحين الفقراء والجنود. وتم تنظيم تـشكيل السوفـيــيتات بسرعة في كامل الأراضي السوفييتية، وتشكلت لجان ثورية في المصانع وتم تنظيم هـيـمـنة العمال الثوريين والوعي الثوري في مصانع الصناعة. وقد مهدت الثورة الطريق لتطوير ولـتـثوير الحركة النقابية. واستمر بناء مؤسسات الثورة الروسية على أسس ديمقراطية العمال.
سنوات الحصار والبؤس والمجاعة والأوبئة، كانت مدرسة قاسية وعنيفة لكنها مفيدة. ما أن شرعت السلطة الثورية في تأسيس وتنفيذ مبادئ وبرامج اشتراكية، حتى بدأت الحرب الأهلية الروسية، حرب أهلية/ثورة مضادة دامت خمس سنوات من أكتوبر 1917 إلى أكتوبر1922، وخلفت هذه الحرب أعدادا كبيرة من القتلى والمآسي. تشكلت الثورة المضادة من الجيوش البيضاء وقوات الكوزاك مدعومة بجيوش وأموال أنظمة الغرب الرأسمالي، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وأمريكا لأنها خافت من انتقال الثورة البروليتارية إلى بلدانها. وبالتالي تدخلت بهدف القضاء على أول ثورة اشتراكية في العالم. واخـتـلفـت تقديرات أعداد قتلى هذه الحرب الأهلية/الثورة مضادة. فالـثـوار يعتبرون أنها خلفت حوالي مليونين من القـتـلى، أما أرقام أنظمة الغرب الرأسمالي في دعاية محمومة ضد الثورة وعمت أن الحرب الأهلية في روسيا خلفت حوالي 20 مليون شخص. انتهت الحرب الأهلية/الثورة المضادة التي دانت خمس سنوات في أكتوبر 1922 بانتصار الجيش الأحمر على الجيوش البيضاء المدعومة من الدول الرأسمالية الإمبريالية والجيوش الخضراء. وكان من نتائج الحرب الأهلية/الثورة المضادة تبلور بيروقراطية قوية داخل أجهزة النظام الاشتراكي الجديد، واستشراء المجاعة وسن سياسة "شيوعية الحرب" نتيجة تعمق الأزمة الاقتصادية في الجمهوريات السوفياتية. ويمكن استخلاص الدرس الأساسي لثورة أكتوبر على النحو التالي: إن إصرار طليعة البروليتاريا المنظمة متحالفة مع الفلاحين الكادحين في حزبها الثوري الذي يمارس خطا سياسيا ضد سياسة إصلاح نظام الرأسمالية وديمقراطيته اليبرالية وضد المصالح الشوفينية، يمكن من تحقيق المصالح الحيوية للأغلبية الساحقة للشعب في المجتمع، طبقة البروليتاريا والفلاحين الفقراء وعموم الكادحين. ووحده هذا الخط السياسي وممارسته هو الذي يمكن الجماهير من تجاوز أوهام الديمقراطية البرجوازية المزيفة ومجتمعها الرأسمالي الاستهلاكي وتفاهته السياسية. وبإصرار الاشتراكيين الثوريين الروس الملتزمين والمستوعبين لماركسية ماركس وللخط السياسي اللينيني وللنظرية النقدية الراديكالية والملتحمين بتحرر البروليتاريا وعموم الفئات الاجتماعية الكادحة، مكن الثورة الروسية من الانتصار ومن تجاوز النظريات الإصلاحية ونقابات النضال الاقتصادي الضيق المعادية للثورة. وكان من الضروري للحزب البلشفي أن يعمل من أجل الهيمنة الديمقراطية على المنظمات الجماهيرية وممارسة مركزية ديمقراطية قاعدية تجسد سلطة الديمقراطية البروليتارية.
الثورة الاشتراكية الروسية والحرب الأهلية حدثت انتفاضة فبراير ضد الأرستقراطية الأوليغارشية الأوتوقراطية وضد الحرب الامبريالية وبسبب هزيمة الجيش القيصري ضد ألمانيا والأزمة الاقتصادية الاجتماعية، أزمة وندرة المواد الغذائية والأزمة المالية. وبالتالي، تصاعد الاحتجاج والنضال الاجتماعي في روسيا وازداد السخط الشعبي، فتوسع نفوذ الأحزاب الإصلاحية والثورية في البداية داخل الجماهير الشعبية. لكن سيعيش الشعب الروسي وشعوب الإمبراطورية القيصرية مع الثوار البلاشفة وتنظيماتهم صيرورة ثورية بين ثورة فبراير البرجوازية وثورة أكتوبر 1917 رغم أن شعوب اتحاد الجمهوريات السوفياتية ستعاني طيلة أهوال ومآسي الحرب الأهلية/الثورة المضادة لمدة خمس سنوات.
النظام القيصري يمارس قمعا دمويا ضد الانتفاضات الجماهيرية في 9 يناير 1905 شارك حشد كبير من الجماهير الروسية تشكل من أكثر من 70 ألف عامل وجماهير سانت بطرسبرغ في مسيرة سلمية. لكن لم يتردد القيصر في إصدار أمر إلى شرطته بإطلاق النار على المتظاهرين، فسقط عدة مئات من المتظاهرين قتلى ومئات الجرحى. و تمكنت موجة القمع القيصري الدموي سنة 1906 من وقف حركة الاحتجاج. وقد كانت الثورة الجنينية سنة 1905 بداية صيرورة ثورية راكمت دروس الصراع السياسي وتحولات المجتمع وتقييم الهزائم وبلورة بدائل. وساهم ارتباط ثوار حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بجماهير العمال والفلاحين والجنود في انتشار الوعي الثوري. و طيلة اثني عشر سنة (1905-1917) ستتشكل للحزب قاعدة شعبية جماهيرية ديمقراطية ثورية، وهي الصيرورة التي وضعت أسس النصر النهائي للثورة الاشتراكية البروليتارية في أكتوبر 1917.
انتصار الثورة الروسية انتصار ثورة أكتوبر، مكنت السلطة البروليتاريا، ممثلة في الحزب البلشفي وسوفييتات العمال والفلاحين والجنود، من تطبيق مبادئ وبرامج والتدابير الأولى المؤسِّسَة لبناء مجتمع اشتراكي وإقرار الديمقراطية البروليتارية. وتمكنت السلطة السياسية الاشتراكية من اكتساب شعبية هائلة بين العمال والفلاحين، سيما مع توزيع الأراضي الفلاحية على الفلاحين الفقراء والكادحين، وتوفير السكن لجماهير الشعب بالاستيلاء على المساكن المتعددة المملوكة للبرجوازية الريعية. كما مارست السلطة الثورية سياسة الحد بشكل كبير من الفوارق في الأجور وبلورت مضمون ديمقراطي للتعليم والثقافة وإعادة تربية الشباب الجانح. ولتجاوز الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي خلفتها الحرب العالمية والحرب الأهلية/الثورة المضادة، طرح لينين خلال المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي البلشفي في مارس 1921 "السياسة الاقتصادية الجديدة" (Nouvelle Politique Economique- NEP) لإعادة بناء الاقتصاد وتجاوز أزمته وتدهوره وتنمية الفلاحة والتجارة لتتمكين المصانع الصغيرة والمؤسسات الحرفية التي تم تأميمها خلال فترة "شيوعية الحرب" من الاشتغال بحرية وبيع منتجاتهم في السوق السوفـيـيـتـيـة. ودافع لينين عن منح الرأسمال الأجنبي تسهيلات معينة. وقد أدت هذه الأزمة الاقتصادية والاجتماعية إلى سيطرة مطلقة للحزب على جهاز الدولة وبداية توسع ممارسة بيروقراطية مركزية لأن روسيا الثورة تحت سلطة الحزب البلشفي كانت بعد انتصار ثورة أكتوبر 1917 في حالة تطويق كامل من طرف الدزل الإمبريالية، على الرغم من أن للحزب معاقل حضرية ويـنـظم البروليتاريا الروسية. وفي بداية الحرب الأهلية/الثورة المضادة استولى المناهضون للثورة على قرى ومدن وأعدموا العمال النشطون سياسيا أو نقابيا المساندون للثوار البلاشفة. لكن بعد الهزائم المتتالية للشيوعيين في بلدان أوروبا وبعد انتصار حزب البلاشفة على الثورة المضادة القيصرية البرجوازية، قرر البلاشفة بقيادة لينين إنشاء جهاز بوليس قوي لـتـثـبـيت السلطة الحزب البلشفي وطبقوا سياسة حظر الأحزاب والصحف التي كانت مضادة للثورة الاشتراكية، وخصوصا الأحزاب اليمينية، وحظر العديد من الصحف المناهضة للثورة الاشتراكية وحتى بعض الصحف الـ"يسارية" الإصلاحية، وتم حل الجمعية التأسيسية، التي كان التصور الغالب داخلها ليبرالي برجوازي، وتم إنشاء لجنة روسية لمحاربة المتآمرين والمعارضين، "الشيكا"، التي واجهت بالحديد والنار كل المعارضين للثورة الاشتراكية.
أثر الحرب الأهلية/الثورة المضادة في نفسية وثقافة الشعوب السوفياتية أثر القمع القيصري وقمع حكومة كرينسكي الحرب الأهلية/الثورة المضادة في نفسية وثقافة وسلوك الجماهير والبروليتاريا والفلاحين الفقراء وتعمقت كراهية هذه الجماهير للنظام القيصري المستبد. و بالمقابل تَعَمَّقَ الوعي ضد القمع والقتل اللذين تعرضت لهما الجماهير الثائرة، طبقات عاملة وفلاحين الفقراء وكادحين، والتي استجابت لنداء لينين "كل السلطة للسوفييت". ورغم أن الحزب البلشفي كان يمثل أقلية داخل السوفياتات، إلا أن مظاهرة من 500 ألف شخص خرجت على أثر هذه الشعار السياسي في الرابع من يوليوز 1917 وتمردت الجماهير ضد نظام القيصر وحكومة كرينسكي، و شكل هذا التمرد دعما للثوار البلاشفة. لأن هذه الحكومة البرجوازية المؤقتة التي تم تشكيلها على إثر ثورة فبراير 1917 لم تتخذ أية تدابير حـقـيـقية ملموسة تستجيـب للاحتياجات وللمطالب الاجتماعية لجماهير شعـوب روسيا. فأدت معاناة جماهير البروليتاريا والفلاحين الفقراء والجنود والأهوال التي مرت عليهم إلى التعايش مع العلاقات البيروقراطية التي مارستـها الدولة/الحزب في علاقتها بجماهير شعبية وبالمجتمع. ومن جانب آخر دمرت الحرب الامبريالية والحرب الأهلية/الثورة المضادة اقتصاد البلد، واضطرت السلطة البلشفية إلى اللجوء إلى استدانة ثقيلة لمواجهة الأزمة. وفي هذا الواقع تم تعزيز معسكر الثوار البلاشفة بالتوازي مع تعزيز الثورة المضادة كما يشير لذلك تروتسكي. وبعد الاستقرار النسبي لنظام الثورة الروسية وبداية تطبيق سياسة الثورة الاشتراكية الروسية شكلت نموذجا للثورة البروليتارية وأنارت طريق العديد من الحركات الثورية المرتبطة بنظرية وبرؤية وبممارسة ماركس الثورية. مكنت هده الثورة القوى الثورية من وعي أن التغيير الراديكالي يحدث في المنعطفات الحاسمة عندما يصبح النظام القديم غير قادر على الاستمرار، ويسود وعي عفوي لدى الجماهير بضرورة التحامها بالسياسة الثورية الراديكالية لتحقيق نظام جديد. وكانت جماهير روسيا تجتمع في كتل بشرية يتجادلون بحماس ويناقشون الأحداث السياسية الجديدة. ورغم أن روسيا سنة 1917 كانت البلد الأكثر تأخرا في أوروبا لكن الفن والثقافة شهدا ازدهارا كبيرا بفضاءات الحركة الثورية.
- ليون تروتسكي -"تاريخ الثورة الروسية" - المؤسسة العربية للدراسات والنشر- يناير 1978