التخطيط االرتجالي في الحالة الفلسطينية الراهنة
سيأتي يوم نكتب فيه عن كنه وماهية المأزق ال ارهن للحالة الفلسطينية بكل وضوح وصراحة وتفصيل.
تأجيل الوضوح والص ارحة والتفصيل فليس، وال يعود ألسباب ذاتية، وإنما ّ ا مرد ّ أم يعود أساسا ا، أو ربما أن ً ألن من ّ شأن ذلك، أي من شأن الص ارحة والوضوح أن يحد يعيقا من اآلمال التي ما ازلت معلّقة على عملية إنقاذ وطني ما ازلت ممكنة، بالرغم ً بعد يوم في وجه هذا االنتقاد، وسيتضح من كل الصعوبات والعقبات التي تزداد يوما ذلك من خالل سياق هذا المقال. وحتى ال نغوص بالتعميم فالحديث يدور هنا عن القرارات التي اتخذتها المؤسسات الرسمية الفلسطينية في عدة دو ارت للمجلس المركزي، وفي المجلس الوطني حول العالقة مع سلطة االحتالل اإلسرائيلي، من زاوية االعتراف، ومن زاوية التنسيق األمني، والتي كان من المفترض أن تؤدي إلى »إعادة« صياغة هذه العالقة من منظور جديد يتمحور حول حالة وطنية فيها عملية متكاملة من التراجع والمراجعة. ّ طة بقدر ما هو متاح دعونا نسأل السؤال اآلتي: وحتى تبدو األمور مبس لماذا لم تقدم القيادة الفلسطينية على وضع قراراتها موضع التطبيق، وظلت تكرر التهديد والتلويح بهذه القرا ارت دون أن تحسم األمر، ودون أن تقدم عليه؟ برأيي أن القيادة الفلسطينية »خططت« لكي يتحول التهديد والتلويح إلى هدف بحد ذاته، أمالً بأن يؤدي »دوره« في تحريك األجواء، وفي »تدخالت« عربية ودولية تعيد الواقع إلى ما قبل أو أثناء العام 2014 ،عندما ركزت الواليات المتحدة بدعم كبير ً من دول اإلقليم العربي، وبذل من خاللها جون من أوروبا ودول العالم، وخصوصا كيري قصارى جهده لمفاوضات فعالة بهدف إحداث انطالقة جديدة، أو ربما اخت ارق سياسي كبير يؤدي إلى انف ارجات سياسية ذات معنى حقيقي، أو بإحداث فرق ملموس كانت تبحث عنه كل األطراف المعنية باستثناء إسرائيل، حيث انتهت تلك الجهود إلى الصفر أو إلى ما دونه في الواقع. تحت ستار األزمات السياسية التي بدأت باجتياح إسرائيل بصورة غير مسبوقة، وغير معهودة تهربت حكومة االحتالل آنذاك، وما زالت تتهرب حتى يومنا هذا من العودة إلى مفاوضات ذات مغزى سياسي يمكن التعويل عليه من وجهة نظر القيادات الرسمية الفلسطينية، وأصبح »تحريك« الوضع السياسي هو السبيل الوحيد المتاح ـ من وجهة نظر هذه القيادات ـ وتحولت القرارات التي اتخذت آنذاك إلى وسيلة القيادات الرسمية لممارسة ضغوطها على المجتمع اإلقليمي والدولي، إضافة إلى أن تلك القرارات استهدفت امتصاص حالة االحتقان الداخلي الناتجة عن استمرار االنقسام، وتردي األوضاع االقتصادية واالجتماعية، وعن مظاهر فاقعة من سوء اإلدارة، واستشراء ظواهر وحسابات الوالء والمحسوبيات الضيقة. صحيح أن القيادات الرسمية قد تصدت لـ »صفقة القرن«، ولم تظهر أمامها أي تردد أو جزع، وصحيح أن تلك المجابهة مع اإلدارة الترامبية انطوت على شجاعة سياسية ترجم على الصعيد الداخلي بأي م ارجعات ُ ّال أن تلك المجابهة لم ت ُحسب لها، إ ت إصالحات حقيقية كانت تتطلبها تلك المجابهة، ّ ة، ولم تقدم القيادات على أي ّ جاد ً كانت بصدد محاوالت ً ومتوقعا وذلك في ضوء أن اإلدارة األميركية، كما كان معروفا جدية لحصار الحالة الوطنية، والبحث عن البدائل الممكنة، واإلمعان في دعم السياسات اإلس ارئيلية بكل ما كانت عليه هذه السياسات من صلف وانتهاك للقانون الدولي، وبكل ما كانت ـ وما زالت ـ تمثله من تخريب منظم ومعلن، وعلى رؤوس ّ سياسي من أي نوع كان، واإلص ارر اإلس ارئيلي على فرض الحل األشهاد ألي حل اإلسرائيلي بالقوة والحصار وسرقة األموال، وكل أشكال التنكيل بالشعب الفلسطيني. أي أن التهديد والوعيد والتلويح هي معالم »االستراتيجية« الفلسطينية إلعادة تحريك الواقع السياسي، وليس وضع تلك القرارات موضع التطبيق. ً بالفعل على هذا من هذه ال ازوية كانت هناك خطة، وكان عنصر التخطيط قائما األساس بالذات وليس على غيره. ً في عدة محاور رئيسة: أما االرتجال فيتمثل أساسا أوالً، وطالما أن تلك الق ار ارت كان مخططا إطار ودائرة ً لها أن تكون، وأن تظل في التلويح إلى مرحلة طويلة ـ إذا لم نقل إنها ستظل داخل هذا اإلطار، ولن تخرج عنه، طالما أن األمر كان كذلك فقد كان على القيادات أن تعرف أن مثل هذه القرارات ستجلب علينا ولنا متاعب كبيرة في كل مرة يجري تك ارر اتخاذها، وتك ارر التلويح بها دون أي خطوات تطبيقية لها. والحقيقة التي باتت واضحة اآلن، وبعد هذا التكرار أن الرسالة التي حاولت القيادات ،ً ً، ناهيكم أنها لم تصل مطلقا ً، وال إس ارئيليا الرسمية إرسالها لم تصل ألحد، ال داخليا ال حين اتخذت، وال حين تم التلويح بها إلى المجتمع اإلقليمي وال إلى المجتمع الدولي. جهت ُ ً على النقطة األولى فقد استخفت كل الجهات واألط ارف التي و ً، وتأسيسا وثانيا لها رسالة )القرارات( عندما فهمت والحظت أن هذه القرارات لم تترافق مع إجراءات، وخطوات كان يبدو من المستحيل أن تأخذ طريقها إلى التطبيق من دونها. إذ كيف كان ممكنا لسلطة الوطنية بتطبيق هذه الق ار ارت من دون ً أن تشرع المنظمة وا أن يتم اإلعداد لها في المجاالت اآلتية: 1ـ تحضير الصياغة القانونية لهذه القرارات، بحيث تتجنب تحميل المنظمة والسلطة ً وأن »التشابك« االقتصادي مع أي مسؤولية، أو تبعات من أي نوع كان، خصوصا االحتالل هو من الدرجة ما يمكنه من تضييق الخناق االقتصادي علينا »بذريعة« قانونية في صيغة القرارات. 2ـ كيف سيجابه المجتمع الفلسطيني تبعات هذه القرارات على الصعد كافة وهو منقسم على نفسه، وكيف سيتصدى لهذه التبعات وهو في مثل األوضاع االقتصادية واالجتماعية التي هو عليها؟ 3ـ كيف يمكن أن تصل رسالة )القرارات( وحالة النظام السياسي الفلسطيني وهي على ما هي عليه، من تشرذم وانقسام، ومن صراعات على السلطات، ومن احتقانات واستقطابات تصل إلى أعلى درجات الحالة المرضية؟ 4ـ كيف يمكن أن تكون تلك الق ار ارت في نظر كل األط ارف المعنية بهذه الق ار ارت وحالة الشرعية السياسية والوطنية على ما هي عليه من »شرعية« األمر الواقع، أو شرعية »المقاومة«، أو شرعية االعتراف المتوارث، أو الشرعية الرسمية؟ وهنا نصل إلى: لو أن تلك القرارات ـ وهي قرارات جيدة، بل وممتازة من حيث الجوهر والمبدأ ـ قد بوشر بها منذ اليوم األول التخاذها، وبقيت من دون التحضير المطلوب، والتمهيد األكثر من ضروري لها على مستوى إعادة إصالح المنظمة بصورة عميقة وحقيقية، وعلى مستوى إعادة نظر جدية بوظائف السلطة الوطنية، وبعالقة المنظمة بهذه السلطة، وبإعادة بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية ّسة.. لو تم تطبيقه ً كبي ارً ارسخة ومكر ا من اللحظات األولى ألعطت مفعوالً إعالميا ربما، لكنها لم تكن لتعطي النتائج السياسية المطلوبة على المستويات كافة. االرتجال هنا بائن بينونة كبرى. ّ ولعل ً هذه الق ار ارت كان من المفترض )وما ازل الواقع يفترض اآلن( أن تكون عنوانا للمرحلة الجديدة، والتي تتحدد مالمحها العامة بالكثير من الحقائق التي باتت في حكم المؤكدة. الحقيقة األولى، أن دولة االحتالل والنظام السياسي الذي يحكمها باتت بكل المعايير دولة للفصل العنصري، وتتحول وتنتقل بتسارع كبير إلى مصاف الفاشية، ما يعني ً لنا بأي حا ل استحالة أن تكون شريكا من األحوال. ً سياسيا بل وأبعد وأعمق وأكثر من ذلك فقد »وقعت« الدولة ونظام الحكم في براثن الصهيونية الدينية، وتحولت مسألة االستيطان والتهويد إلى الواجهة األولى، وعنوان هذه الدولة ونظام الحكم فيها لسنوات وسنوات قادمة. والحقيقة الثانية، أن الواليات المتحدة ليست بوارد االهتمام بحل سياسي ال يستجيب للمصالح العليا الصهيونية، وأن المجتمع الدولي ليس على أي استعداد لالنفكاك عن ً بعد اندالع الحرب في السياسة األميركية، وقد ال يملك القدرة على ذلك، وخصوصا أوكرانيا. والحقيقة الثالثة، هي انهيار الحالة العربية الرسمية، ولم يعد في الواقع العربي سوى بيانات التنديد والشجب واالستنكار. مواجهة هذا الواقع، وفي ظل األزمة اإلسرائيلية بما تعنيه من انسداد األفق التاريخي لمشروعها الصهيوني باتت تتطلب أن نعتبر بأن إسقاط نظام الفصل العنصري في إسرائيل هو برنامجنا الوحيد، وهو البرنامج الذي ي د شعبنا، ويحدد أداة نضالنا، ّ وح ويعيدنا إلى دائرة التحرر الوطني، وذلك من خالل االرتباط الوثيق بطبيعة الوعي اإلنساني في الظروف التاريخية الجديدة، وارتباطنا األعمق مع القوى التقدمية الصاعدة في الغرب وفي العالم، بل وحتى بناء ش اركة است ارتيجية مع القوى السياسية اإلس ارئيلية التي تناهض الفصل العنصري والفاشية. ِرد أن يضع ق ار ارت »المركزي« و»الوطني« موضع التطبيق عليه أن يشق ُ من ي الطريق على أساس عناوين الوضع الجديد. وهنا لنا عودة، أو أكثر من عودة.
عبد المجيد سويلم