خواطر فلسطينية على هامش الأزمة في أوكرانيا
لا يمكن الادعاء أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، شغلت العالم عن القضية الفلسطينية. ففي الأساس، كان العالم، وبشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية مشغولاً عن القضية الوطنية للشعب الفلسطيني، لصالح قضايا، يعتقد جو بايدن وهيئة أركانه السياسية والأمنية والعسكرية، أنها أكثر أهمية من القضية الفلسطينية. حتى الجانب الإسرائيلي نفسه، وبشكل خاص رئيس حكومة دولة الاحتلال نفتالي بينيت، يتجنب أن يرد على لسانه أي ذكر للقضية الفلسطينية، وقد حولها، كأمر واقع إلى مجرد قضية اقتصادية – اجتماعية، أحال معالجة ملفاتها إلى وزير دفاعه بيني غانتس، في خط مباشر مع الرئيس محمود عباس شخصياً.
ومع ذلك، يمكن القول أن للعملية العسكرية الروسية على القضية الفلسطينية تأثيرات سوف نتلمس نتائجها لاحقاً، عند كل منعطف وعند كل استحقاق.
ففي موازين القوى الإقليمية، يتوجب القول أن الموقع الإقليمي لدولة إسرائيل قد ازداد وزناً، ولم ينافس في هذا المجال سوى الموقع التركي. تركيا من خلال موقعها الجيوسياسي (الممرات البحرية ذات الطابع الدولي التي تربط بين البحرين الأسود والأبيض)، وتأثير قراراتها بشأن الحركة في هذين المعبرين (البوسفور والدردنيل)، ما يمكنها أن تفتح بالتوازن المطلوب، على موسكو، وكذلك على واشنطن، وأن تستعيد أنقرة في السياق ذاته، كونها عاصمة لدولة عضو في الحلف الأطلسي، لم تنغمس في الحرب الاقتصادية، على غرار باقي الأطراف في الحلف، بل استغلت موقعها فيه لتعزيز مكانتها عبر إجادة سياسة تراها متوازنة، ترضي موسكو، ولا تغضب واشنطن.
إلى جانب تركيا (وهذا ما يهمنا أكثر) تقدمت دولة الاحتلال الصفوف لتلعب دور الوسيط بين موسكو والعواصم الأوروبية، وهو أمر شكّل مفاجأة لم تكن محسوبة. وإذا كان القول أن الوسيط الإسرائيلي استفاد من كونه يهودياً، ومن كون أوكرانيا فيها تجمع يهودي لا يقل عن 120 ألفاً، وأن هذه العوامل هي التي لعبت الدور في توفير الشروط لإسرائيل لتكون وسيطاً، فهذا معناه تعزيز الموقع.
الذي تدعيه إسرائيل باعتبارها دولة اليهود في العالم، وأنه حيث تقع أحداث في أماكن يسكنها يهود، أياً كانت جنسيتهم، فإن إسرائيل هي المعنية برعاية مصالحهم، في تأكيد ازدواجية ولاء اليهودي لوطنه ولإسرائيل في الوقت نفسه (باعتباره وطنه الأصيل)، وفي تأكيد على أن يهود العالم، أياً كانت جنسيتهم، فهم شعب مرجعيته إسرائيل، وهذا بطبيعة الحال لا يخدم القضية الوطنية.
وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت أن تستغل المأساة الروسية – الأوكرانية في ظل مؤامرة أميركية حيكت خيوطها في إقليم دونباس، كشفت عنها وزارة الدفاع الروسية، فإن الدول العربية مجتمعية، كانت إقليمياً، هي الغائب الأكبر، وتبين أن الثروة النفطية الخليجية، بقيت مجيدة، وفشلت في أن تلعب دوراً، ولو جزئياً، في لعبة العقوبات محيّدة الاقتصادية على روسيا، حتى بعد أن صعدت واشنطن إجراءاتها لتطال قطاع الطاقة بفروعه المختلفة.
أما إيران، الدولة الإقليمية الثالثة من حيث النفوذ في المنطقة، إلى جانب كل من تركيا وروسيا، فقد اتخذت الموقف الواجب اتخاذه أي الوقوف إلى جانب روسيا، في مواجهة الهجمة الأميركية الأوروبية، والتي بنت استهدافاتها أبعد بكثير من مسألة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
* * *
ومع ذلك فإن أحداً لا يمكن أن يتجاهل تداعيات الأزمة الأوكرانية على القضية الفلسطينية.
ففي الوقت الذي يتصاعد فيه الحديث عن مؤثرات دولية تجاوزت حدود المسألة الأوكرانية، وقد تطال الصين وكوريا الشمالية، فإنه من الواضح أن منطقتنا العربية بقيت هادئة، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي سارت الأمور فيها على ما هي عليه دائماً. اجتماعات قيادية فلسطينية وتصريحات صحفية، ولا شيء ملموساً على الأرض. غزوات إسرائيلية لمدن الضفة واعتقالات جماعية ونسف منازل، وردود فعل إعلامية لا تتجاوز لدور الاستنكار والإدانة والشكوى للمجتمع الدولي، المنشغل مجلس أمنه، وكذلك جمعيته العامة بأزمة أوكرانيا التي لا تتوقف واشنطن عن تسعير نيرانها باندفاع ملموس من لندن، أمر واحد قد يكون ملموساً؛ هو تجميد إسرائيل في البت بالقضايا الشائكة، كالنقب، والشيخ جراح، والخان الأحمر.
وبات واضحاً أن الولايات المتحدة نجحت في إرساء «نظام» فلسطيني – إسرائيلي، يقوم على ضمان الاستقرار (أو فرضه ربما) حتى لا تتكرر مرة أخرى معركة القدس ولو بصيغ أخرى.
لذلك تعمل إسرائيل على «تقليص الصراع» مع السلطة الفلسطينية، وتسعيره ضد المواطنين، في ظل نظام مستقر للتنسيق الأمني، يكفل محاصرة بؤر المقاومة الشعبية، وسدّ الطريق أمام أي مشروع لبناء القيادة الوطنية الموحدة للمقاومة الشعبية.
أما في قطاع غزة فإن الملفات كلها تدار دفعة واحدة على أكثر من محور: (الجنود الإسرائيليين الأسرى، إعادة إعمار القطاع، المساعدة المالية القطرية، تلبية احتياجات القطاع من المحروقات، تخفيف عبء الحصار عبر تشغيل المزيد من الأيدي العاملة الفلسطينية في إسرائيل دون أي مس بإجراءات الحصار العسكرية والأمنية، بل بتعزيز ذلك عبر جدار للفصل، استقطع المزيد من أراضي القطاع، إن لصالح البناء أو باعتبارها «منطقة محرّمة» على السكان).
هذا في الظرف الراهن.
أما في الأيام القادمة، فلسوف نتلمس نتائج أخرى لأزمة أوكرانيا منها:
أولاً- إن في ظل الصراع الأميركي – الروسي، وما يقال في صدده عن متغيرات فإن الرباعية الدولية لفظت أنفاسها، وباتت جزءاً من الماضي، ولم تعد تشكل إطاراً دولياً، تهيمن عليه الولايات المتحدة لإدارة العملية السياسية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. فهذا التعاون بين الولايات المتحدة وروسيا، سقط على أرض المعركة في أوكرانيا، وهيمنة الولايات المتحدة منفردة على القضايا الكبرى، كالقضية الفلسطينية، لم تعد تنسجم وتتلاءم مع النظام العالمي الجديد الذي نشأ تحت ضربات الجيش الروسي لمشروع تمدد الناتو إلى أوكرانيا وتحويلها إلى قاعدة من قواعده النووية.
لقد كانت الرباعية الدولية صيغة توافقية، تقدمت بها كفكرة دول الاتحاد الأوروبي لتوفر لها دوراً في ظل القضية الفلسطينية وإدارتها، أدخلت عليها الولايات المتحدة تعديلات تكفل لها إدامة هيمنتها على العملية السياسية، ودخلتها موسكو طرفاً لم ينجح في أن يشكل طرفاً موازياً في نقله للقضية الفلسطينية، لسببين اثنين: تعنت إسرائيلي، وإصرار تل أبيب على إبقاء حليفتها واشنطن هي «الضامن» للعملية السياسية في المنطقة، ووهم فلسطيني رسمي أن مفاتيح الحل هي بيد واشنطن وحدها، وأن موسكو ليست إلا لاعباً يمكن الاستفادة التكتيكية منه في إدارة الصراع مع إسرائيل، ولذلك بقيت الرباعية الدولية في مساعيها العامة، عاجزة عن حل القضية الفلسطينية، عبر قرارات الشرعية الدولية، وظلت أداة للمراوغة الإسرائيلية – الأميركية (رغم الإصرار الرسمي الفلسطيني على التمسك بها !) وقد اتخذت الأمور مظهراً أكثر تعقيداً، حين ذهبت الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب إلى حد تعليق الرباعية الدولية، ووضع استراتيجية للحل يقوم على الانقلاب على قرارات الشرعية الدولية، ونسفاً لها كإرث لحل القضية الفلسطينية. وما زالت إدارة بايدن، كما تؤكد الوقائع، تقف عند ذات الخطوات التي خطتها إدارة ترامب، ولم تتراجع عنها مع ترويج لوهم طال الحديث عنه دون أية تباشير، اسمه «حل الدولتين».
وفاة الرباعية الدولية (باعتراف ممثلي الاتحاد الأوروبي أمام القيادة السياسية الفلسطينية) من شأنه أن يضع القضية الفلسطينية أمام واقع سياسي جديد، يطرح في سياقه الأسئلة التالية:
أ) هل هناك إطار دولي بديل للرباعية الدولية؟
ب) هل تستطيع الرباعية الأوروبية العربية (ألمانيا، فرنسا، مصر والأردن) أن تشكل بديلاً للرباعية الدولية، وإذا كانت الولايات المتحدة، في زمن أوباما، فشلت في الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان، فهل تنجح فرنسا وألمانيا حيث فشلت إدارة أوباما، بما يفتح الباب لعملية سياسية، تحاول أن تقارب قرارات الشرعية الدولية، التي تدعو لوقف الاستيطان؟
ج) إذا كان موت الرباعية الدولية، سيؤدي، بالتداعي إلى موت الرباعية العربية الأوروبية، فما هو الغطاء الدولي للقضية الفلسطينية الذي ستحاول القيادة السياسية الفلسطينية البحث عنه؟ ... هل سيكون المؤتمر الدولي الذي دعا له المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ 23 (2018) وأكد عليه المجلس المركزي في دورته الـ 31 (2022)، وهل ستتمكن الأمم المتحدة، في ظل الصراع الأميركي – الروسي، الذي ستمتد تداعياته إلى داخل المنظمة الدولية، أن توفر الشروط الدولية لانعقاد مؤتمر دولي، أم أن القضية ستظل واحدة من القضايا الكبرى المعلقة، إلى أن تستجيب التطورات الدولية، وموازين العلاقات بين أطرافها (الكوريتان، تايوان، كشمير، فلسطين، أكراد تركيا ... الخ) ؟
د) أخيراً وليس آخراً، هل ستستخلص القيادة الفلسطينية ما يتوجب استخلاصه من نتائج الأزمة الأوكرانية، وإعادة صياغة النظام العالمي، لصالح تطوير علاقاتها مع موسكو، في إدارة جديدة للقضية الوطنية، وهل ستستدير باقي الأطراف الفلسطينية نحو هذا التوجه، لتصحيح الأخطاء التي ارتكبت في حوار موسكو في شباط (فبراير) 2019؟
أسئلة كثيرة، نعتقد على القيادات السياسية الفلسطينية قراءتها ودراستها ورسم خطوط واضحة بشأنها، ومغادرة السياسات الانتظارية، وقد أكدت التطورات الدولية أن هذه السياسة ليس من شأنها سوى أن تقود إلى المزيد من تهميش القضية الفلسطينية.
ثانياً- كنا، فيما مضى، نتهم إسرائيل بأنها تستغل الأحداث والحروب الدولية لتنجز مشاريعها في غفلة من المجتمع الدولي. أما الآن، فإننا نعتقد أن الظروف الفلسطينية مؤهلة لتفويت الفرصة على إسرائيل لتستعيد ألاعيبها بشأن دورها دولة احتلال، بل نعتقد على عكس ذلك كله، أنه بإمكان الحالة الوطنية الفلسطينية أن تستغل (أو تغتنم الفرصة – على الأصح) لتخطو إلى الأمام خطوات مهمة في تحقيق المشروع الوطني، فالمقاومة الشعبية المشتتة في الضفة الفلسطينية (وفي القلب منها القدس) تنتظر القرار القيادي الجدي، لتشكيل القيادة الوطنية الموحدة، من أسفل إلى أعلى، بما يوحد النضال الجماهيري، ويشرّع الأبواب لقيام كل أشكال المقاومة، بكل الأساليب.
والحالة في قطاع غزة، أياً كانت تعقيداتها، لن تستطيع الوقوف متفرجة أمام اشتعال الأوضاع في الضفة، أما الحالة في الـ48 فهي لا تقل استعداد للعودة إلى ثورة الغضب التي اشتعلت في أيار (مايو) 2021 في معركة القدس. أما الشتات، فلديها الكثير مما يتوجب فعله في هذه المعركة.
ليس بالضرورة أن نستعيد المشهد ذاته الذي رسمت ملامحه معركة القدس، لكن الوقائع تقول أن المقاومة هي الوسيلة الوحيدة لشق الطريق أمام المشروع الوطني، وأن أية دعوة إلى مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية بموجب الشرعية الدولية، لن يكون لها صدى إيجابي في عواصم العالم ومؤسساته الدولية إلا من خلال تأكيد قوة الحالة الفلسطينية وتماسكها، لذلك نقول أن بالإمكان الذهاب مجتمعين، حتى ولو كان الانقسام علامة كبرى تضغط على الحالة الفلسطينية، بوحدة الميدان، لترسم حالة وطنية جديدة، تفرض علاقاتها الداخلية على الأطراف المعنية، ومن سيغيب عن الميدان، سيجد نفسه خارج المعادلات الجديدة■
\ معتصم حمادة
** عضو المكتب السياسي**
** للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين**