قراءة في كتاب: ثورة في الرؤوس في الماركسية والاشتراكية واليسار
للمفكر المغربي عبد الإله بلقزيز.
صدر هذا الكتاب عن المركز الثقافي للكتاب بالدارالبيضاء، في صيف السنة الماضية، وقد تزامن مع إحياء الذكرى المئوية الثانية لميلاد كارل ماركس.
تكمن أهمية هذا الكتاب ، في سبر أغوار الفكر الماركسي، من خلال شرح شروط تشكله التاريخية وأطروحاته الفكرية والسياسية، وكذا جدوائيته في الصراع الراهن ضد الرأسمالية ومن أجل الاشتراكية.
يقرأ الكاتب هذه الراهنية من خلال تحرير المثن الماركسي من التشوهات والإسقاطات التي لحقت به نتيجة تأويلات تعسفية أو ذوغمائية، وفي هذا السياق، يقدم الأطروحات التالية:
1- نحت مفهوم الإديولوجية السياسية لتمييزه عن التصور النظري الذي حكم المنظومة الفكرية الماركسية، وتبعا لذلك يعتبر " اللينينية" هي نتاج الإديولوجية السياسية التي بلورها لينين في مواجهة القيصرية وتحقيق ثورة أكتوبر1917، أي تتميز بالطابع الخصوصي لروسيا ولمستوى تطور البنية الاجتماعية- الاقتصادية، ولشروط الحرب؛
2- التركيز على الفصل المنهجي بين الماركسية وفشل الاشتراكية ، ذلك أن انهيار الاتحاد السوفياتي لا يمكن ربطه أوتوماتيكيا بعدم صلاحية الفكر الماركسي، فهو يستند بالدرجة الأولى إلى قراءة تعسفية لمنظومة الفكر الماركسي، ولقصور في النظر لمشكلات جديدة-لم يعالجها ماركس في زمنه بنفس المعالجة الدقيقة لدينامية الرأسمالية، من بينها جملة من القضايا التي تتعلق بالمضمون الملموس لجهاز الدولة والديمقراطية والاشتراكية- ولأخطاء في الممارسة السياسية، ويعني بها الكاتب عدم تجذير الفكرة الديمقراطية في المجتمع، وعدم تبوء البروليتاريا السلطة عبر التناوب بين مكوناتها الايديولوجية والسياسية، أي سيادة نمط الحزب الواحد، وقمع الرؤى الأخرى المختلفة رغم أنها تدود عن بناء الاشتراكية.
3- اعتبار الشيوعية نظرية مثالية ، ولا تنسجم مع الرؤية المادية الجدلية ، عكس التنظير للمجتمع الاشتراكي الذي ينبثق وفق تحليل دينامية الرأسمالية ، من تطور التناقضات بين الطابع الخاص للتملك والطابع الاجتماعي للإنتاج.
4- تم تبني الماركسية في الرقعة الجغرافية العربية من خلال الدور الذي لعبه الكومنترن في ترويج الماركسية المسفيتة، وظلت ماركسيتها غريبة عن مجتمعات مثقلة بالفكر الغيبي والديني وبآليات الاستبداد السياسي، بحيث لم تكن سباقة إلى ربط التحرر الاجتماعي للطبقة العاملة بالتحرر الوطني من الاستعمار، ولم تتمكن من بلورة رؤية صحيحة لعلاقة الجماهير بالدين، وتبوء مسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان المشهد السياسي، في نضالها اليومي الملموس.
5- شكل نقد اليسار العربي واليسار المغربي نصف صفحات الكتاب، مبرزا التناقض الصارخ بين الفكرة الماركسية وبين ترجمتها على أرض الواقع، مستندا في ذلك إلى أزمة تبيئة الماركسية في الواقع العربي والمغربي، وفي شروط تكونهما المتسمة بعدم نضج تنظيماتها في التأثير السياسي والإيديولوجي على أوضاع الجماهير الشعبية وإخفاقها في تنزيل برامجها الثورية، بسبب اجترار خطط وبرامج وأطروحات للثورثين الروسية والصينية، وبعض الأفكار الثورية التي أفرزتها الانتفاضة الطلابية سنة 1968، وتلك المرتبطة بانبثاق الكفاح المسلح الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني، وإذا كان اليسار العربي ممثلا في الجبهة الديمقراطية الفلسطينية، ومنظمة العمل الشيوعي اللبنانية قد طور نسبيا خطاب وبرنامج اليسار العربي، بتمييزه البرنامج المرحلي عن البرنامج الاستراتيجي، فإن اليسار المغربي ظل يراوح مكانه بسبب استمرار تسويقه أطروحة إيديولوجية، لا تعير اهتماما لمسألة التمرحل في النضال، والعلاقة الجدلية بين التكتيك والاستراتيجية، وبالاعتماد أساسا على أسلوب التحريض في شحد الجماهير، وجعل من الحركة الوطنية التقدمية خصما إيديولوجيا وسياسيا ، حيث استهلك وقتا سياسيا في الصراع معهأطول من صراعه ضد النظام، وحمل مسؤولية الشبيبة التعليمية مسؤولية سياسية أكبر من حجمها، قادته في النهاية إلى إخفاق مشروعهالسياسي- الاجتماعي.
كانت هذه في المجمل أهم الأطروحات التي بلورها الكاتب من خلال تصور نظري محكم، يتوسل استخدام المفاهيم الماركسية في أصولها، مع إعادة تأويلها وتطويرها من خلال مفكرين ماركسيين مشهود لهم بالاجتهاد النظري من أمثال غرامشي، ألتوسير، نيكوس بولانتزاس، وشارل بتلهايم،سمير أمين ومهدي عامل.
رغم تسجيل هذا الاجتهاد المتميز في النظر إلى موضوعات الماركسية والاشتراكية واليسار، فقد ظلت بعض البياضات في الكتاب غير مملوءة، ونخص بالذكر نقده الجذري للفكرة الشيوعية، التي لا يستقيم نقده لها إذا لم يربطها بالبناء الطويل للإشتراكية، على اعتبار أن أي تقدم في نقد الشيوعية سلبا أو إيجابا، يجب أن يرتكز على تجاوز أخطاء بناء الاشتراكية، وبلورة أطروحة سياسية لا تقف عند حدود الاشتراكية، وإلا سنقفل باب التاريخ المفتوح على عدة احتمالات.
القضية الثانية التي لم يستفيض الكاتب في فك عناصرها وشرح ملابسات عدم تطبيقها في " التجربة الاشتراكية الفعلية" هي ديكتاتورية البروليتاريا، وأعتقد أن فشل لينين في الدفع بها نحو الأمام، هي ما تعيد للأدهان فكرة الديمقراطية في قلب المجتمع الاشتراكي، والتي تشكل روح التحول من الاشتراكية إلى الشيوعية، فبالمثل استغرق تجسيد" الديمقراطية" في الغرب الرأسمالي أزيد من أربعة قرون، وقد ساهم نضال الطبقة العاملة في هذا الترسيخ، من خلال أولا القضاء على الإقطاع، لأن البرجوازية أفسحت المجال للطبقة العاملة لتساعدها في هذه المهمة، وكانت ثورات 1848، تعبيرا عن هذا التحول ، ووسعت أيضا من دائرة " الديمقراطية البرجوازية" خلال الفترة الكينزية(1945-1975) أو ما يسمى ب" ثلاثين سنة المجيدة".
ثالث القضايا هو العلاقة المتشابكة والمعقدة بين الطبقة والدولة، صحيح أن الدولة هي مجال حل التناقضات الطبقية، لكن في ظل الهيمنة الرأسمالية، ليست البرجوازية جسما متجانسا، فحسب تحليلات ماركسيين جدد، من أمثال جاك بيده وجيران دومينيل، فهناك القطب من البرجوازية الذي يتحكم في وسائل الإنتاج، وقطب آخر يتشكل من الأطر التي تراقب وتشرف على الإنتاج وتدبر السياسات العامة للنظام الرأسمالي، وبالتالي فالصراع داخل المجتمع البرجوازي، يتشكل من ثلاثة طبقات: مالكي وسائل الإنتاج، الأطر العليا في القطاع العام والقطاع الخاص، المشرفين على إدارة الرأسمال ومراقبة أرباحه، ثم الطبقة العاملة ومختلف الأجراء. ودمقرطة الدولة سواء في إطار الرأسمالية المتقدمة أو الرأسمالية المتأخرة، يستلزم فك التناقض بين البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وطبيعتها جد محافظة، والحائزين على الكفاءة في التدبير الاقتصادي والساهرين على حماية الدولة من التفكك، في هذا الصراع الثلاثي، من الأسفل من طرف الطبقات الشعبية، ومن الفوق في استمالة الأطر لصالح هذه الأخيرة.
وكخلاصة مركزة، فالنقد الذي وجهه لليسار المغربي، يحتاج إلى تحيين، إذ أصبح اليسار يهتم بحقوق الإنسان وبضرورة إنجاز الديمقراطية، وأصبح يميز بين النضال المرحلي والنضال الاستراتيجي، وتطور في اتجاه بلورة جواب صحيح حول تدين الشعب، ولم يعد في ممارسة اليسار ذلك البون الشاسع بين الإصلاح والثورة، فبقدر ما يتقدم في النضال من أجل الإصلاح، يتقدم أيضا خطوات في النضال من أجل الثورة.