كي تعود الهجرة مرة أخرى من الخارج إلى الداخل
"أكلنا السمك يما"!، هي ليست جملة، يرددها أحد محترفي الأفلام الدرامية، وليست عبارة مقتبسة، من رواية إغريقية قديمة، وليست كلمة العبور لطالب يؤدي إختباره الأخير على مسرح الجامعة الوطنية، بل هي كلمات تجسد كل ما يختزنه المعنى العميق للتراجيديا الفلسطينية، هي تمركز إختلاط جميع مشاعر الألم والخوف والقهر والغضب، الذي بات الشباب الفلسطينيون، يشعرون بها ويعيشونها في كل يوم يمر، وهم يشاهدوا الحواجز الإسمنتية تعلو أكثر فأكثر، أمام حديقة أحلاهم، التي زرعوها على إمتداد سنوات من العلم والتعب الطويل.
هي كلمات، تحمل في طياتها أبعد من رسالة مناشدة، لشاب فلسطيني من قطاع غزة، وجد نفسه متخبطا بين جثث الأحباء والأصدقاء، الذين قرروا المضي سويا في رحلة المجهول، على قوارب الموت السريع، وبين أمواج الهجرة العاتية، في طريق البحث عن ابسط مقومات الحياة، والسير على جمار فراق الأهل والحي والشارع والمدينة، حيث حلم كسائر أبناء جيله، برفع علم بلاده الحرة، يداعبه نسيم الوطن السليب، فشاهد مواكب الأبطال تسير إلى حدودهم الشرقية، بعد نداء العودة، ليقدموا أرواحهم فداء لفلسطين، ولعبور الخطوط الزائلة، كما سمعها تردد على لسان خطباء المنابر
هناك حيث رسم خرائطه العمرانية، على دفتر الرسم الإبتدائي، حالما بأيادي تتشابك بين طرفي الوطن، ليبني ما دمرته حاملات الحمم الصهيونية، المحلقة على إيقاع النفط الرجعي، ببركة "كولومبس" الفاتح، على خطى قبائل "دواميش"، حيث إتكأ الرجل الأبيض، بوزنه السياسي والعسكري والإقتصادي، على جماجم، عازفي الناي، وكاتبي خطاب الفناء الأخير.
وقف الشعب الفلسطيني، الذي رفض قدرا أراده أعداء الإنسانية، محتما على رؤوس الملايين، حاملا راية العودة، ومقدما في سبيلها آلاف الشهداء، الذين حملوا في قلوبهم وطنهم، وساروا على درب الكفاح والتضحية، مرددين الأغاني الثورية مثل "طالعلك يا عدوي طالع"، فلم تهدأ محاولات العبور، في ماراثون العودة إلى الوطن، منذ سطوع نجم الكفاح الوطني الفلسطيني، فقد جند الشعب الفلسطيني نفسه، في معركة مصيرية واحدة، قلبها تحرير الأرض، وجوهرها العودة إلى السهول والجبال والأنهر والبيارات، إلى الكروم التي بقي زيتها يعتصر ألما، على فراق غارسيها، فأسراب المطرودين والمهجرين، أبوا إلا أن يوقفوا عقارب الساعة الإحلالية، ويعيدوها إلى نقطة الهجرة الأولى لطائر الفينيق العائد من بين السراب.
يقف الشباب الفلسطيني اليوم، أمام واقع هزيل، بل واقع أضحى خارج أي قالب منطقي، بعد أن اصبح الوطن المحتل، مساحة لممارسة السيادة المصطنعة، وبازارا لبيع الأوهام والتكتيك السياسي الفاشل، المقولب بالوعود بصراعات الديوك على سلطة بلا سلطة، تخترقها طرقات المستوطنين، وتحاصرها أسلاك شائكة، وتحكمها عقلية الحزب الرائد، وصراع تكريس الحزب الواحد، دون الإكتراث لحقيقة خطر داهم، يمثله عدوا يستند بمشروعه الإحلالي لعامل التفوق والزمن، لقد أضحى الشباب الفلسطيني بشكل خاص، والشعب الفلسطيني بشكل عام، أمام معضلة الحسم بين الصعب والأصعب، في الثبات والبقاء على أرضه، لمواجهة مشاريع إستكمال عملية السطو الكبير، على ما تبقى من أرض فلسطينية، ومعركة الحفاظ على الهوية الوطنية وتماسكها، في ظل حالة من الفوضى السياسية العارمة، يعيشها الشعب الفلسطيني، منذ زمن طويل، وبين الهجرة إلى المجهول، حيث الإبتعاد عن الأرض، والإنسلاخ عن الأهل والأحلام التي كانوا جزءا أساسيا في تفاصيلها.
فالحالة السياسية الفلسطينية، التي وصلت بفعل الإحتراب السياسي، وضرب بعرض الحائط جميع المشتركات الوطنية، لصالح المصالح الحزبية والفئوية الضيقة، أضحت الضاغط الرئيسي، والعامل الحاسم في الدفع بالشباب الفلسطيني، إلى الخيارات المجهولة، الغير منسجمة في كثير من الأحيان مع طموحات الشباب والشعب الفلسطيني، الذي يعي جيدا أهمية البقاء على الأرض، بل وأيضا دفع ثمن ثباته الغالي والنفيس، على طريق عودة المطرودين، لقد فوتت الجهات المتنفذة في مفاصل النظام السياسي الفلسطيني، جميع الفرص الحيوية، لإستعادة المبادرة وفرملة حالة التدهور الغير مسبوقة، التي وصل إلها النظام السياسي الفلسطيني بشقيه، وبالتالي حالة الفوضى والترهل العارمة، التي وصلت إلها مؤسسات هذا النظام، بحيث أضحت مومياءات، توضع في متاحف الخطابات الثورية الرنانة، ذات المضمون المفرغ.
عبر الشعب الفلسطيني في كثير من المحطات، عن حالة الغضب وعدم الرضى، عن ما وصلت إليه الحياة السياسية الفلسطينية، التي لا تلبي الحد الأدنى من الطموحات الوطنية الجامعة، لجميع أبناء الشعب الفلسطيني أينما كانوا، بدءا من سحب البساط من تحت أقدام الحركة الجماهيرية الفلسطينية، في عملية أعادة ضخ الدماء الشرعية، وتشبيب المؤسسات الفلسطينية، من خلال الإعلان عن تأجيل الإنتخابات الشاملة، التي شكلت أحد أهم قرارات القيادة الفلسطينية الأولى، وركيزة قرارت المجالس المركزية والوطنية، مما عمق حالة اللا ثقة، بين الشعب والقيادة، وعزز حس القناعة بالمراوغة السياسية الممارسة، في سياق ترجمة سياسة الإنتظار واللا مبادرة، والرهان على هدايا أو تغيرات إقليمية أو دولية، تعيد إطلاق مسار سياسي فاشل مجرب، لا يخدم إلا إمتيازات المجموعة المتنفذة، إلى جانب نثر رماد قوس النصر الفلسطيني، الذي تجسد في المعركة الجماهيرية - المسلحة، التي خاضها الشعب الفلسطيني، كتفا إلى كتف مع المقاومة، في أعقاب هبة "باب العامود" ومعركة "سيف القدس"، بحيث أستخدمت لتكريس النفوذ، وإستعراض القوة الحزبية، على حساب الإنجاز الشعبي العظيم
طالما حمل الشعب الفلسطيني، في ضميره الثوري ووجدانه الوطني، حلمه بالعودة والهجرة العكسية، من خارج فلسطين إلى داخلها، دفع خلال مسيرته النضالية آلاف الشهداء والأسرى والجرحى، وضحى بالغالي والنفيس، وهو يحاول من كل حد وصوب، العودة من حيث طرد الأجداد والآباء، متمسكا بحقه التاريخي، ومؤمنا بذاكرته الجماعية، التي تلخص جميع قصص البطولة والشرف، في سبيل الهدف الجامع، لم يكن بمنظور شعبنا العظيم، أي مفردات مرتبطة بهجرة الوطن، والإبحار إلى المجهول، بحثا عن أبسط مقومات العيش الكريم، إلا أن "جشاعة" المتنفذين، وسوء إدارتهم للدفة الوطنية الفلسطينية، ووضع جميع تضحيات شعبنا، على طاولة المزاودات الحزبية الضيقة، خلقت واقعا مريرا جديدا، وتحديا حقيقيا، يضاف إلى جميع التحديات المفروضة على الأرض الفلسطينية، كجوهر لمشروع التصفية الكبير، لنضال شعبنا وحقوقه الوطنية، وعلى القيادة الرسمية الفلسطينية، والممسكة بمفاصل إدارة حكومتي الأمر الواقع، أن يدركوا حقيقة إخفاقاتهما وإحترابهما المتواصل، وعليهم أن يصغيا جيدا وجديا إلى نبض الشارع الفلسطيني، وأن يدركا تمام الإدراك، أن المتغيرات أضحت بحاجة لإستراتيجية عمل وطنية جديدة، تأخذ بعين الإعتبار جميع هذه التحديات، وتضع جانبا المصالح الحزبية الضيقة، وأن يدركا ايضا بأن سياسة الإنتظار والمراوغة، والتجاهل المتعمد، لحقيقة الأوضاع الراهنة، لن تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات، وتعميق التحديات، وهذا ما يتطلب الإسراع في تفادي إتساع الفجوة، التي أصابت الحركة الجماهيرية وثقتها، كي لا تستمر الهجرة إلى الخارج، وكي تعود مرة أخرى هواجس الهجرة من الخارج إلى الداخل.