سردية البيان الشيوعي
رغم مرور 175سنة عن تحرير هذه الوثيقة التاريخية من قبل ماركس وإنجلس، معلما البروليتارية، فقد ظلت على الدوام نبراسا سياسيا وملهما فكريا لنضال البروليتارية في العالم ، رغم الأزمات السياسية التي مرت منها الحركة العمالية من أجل الضفر بالسلطة، خاصة في أوروبا الغربية وأمريكا كموطنين لنشأة الرأسمالية وبروز الطبقة العاملة على مسرح الأحداث السياسية الكبرى من خلال نقاباتها وأحزابها ومنتدياتها الفكرية والفنية، لأنها رسمت طريق نضالها التكتيكي والاستراتيجي برؤية مستقبلية لا تخطئ الهدف، أي القضاء على النظام الرأسمالي وإحلال محله النظام الشيوعي حيث تنتفي فيه جميع أشكال الاستغلال والاستلاب والتمييز القائمة على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج واستغلال الإنسان للإنسان، كما حددت مبادئ نظرية وسياسية تميز الشيوعية كنظرية في التغيير الثوري عن باقي النظريات الاشتراكية الإصلاحية ، وبصفتها أيضا المعبر الأمين عن المصالح العليا للبروليتاريا بغض النظر عن اختلاف جنسياتها القومية.
على ضوء هذا التقديم العام، لنبحث بشكل من التفصيل في المقدمات التاريخية التي نقرأ على ضوئها هذه الوثيقة النظرية والسياسية التي شكلت قطيعة فكرية وسياسية مع مختلف النظريات والممارسات السياسية البرجوازية، بما فيها تلك التي اتخذت لبوسا "مناهضا للرأسمالية" أو تبنت شكلا خاصا من "الاشتراكية".
لحظة مخاض الانتقال من الديموقراطية الجذرية الى فكرة الشيوعية
قبل أن يلتقي ماركس وإنجلس بباريس سنة 1844، سبق أن قرأ كل واحد منهما ما يجول في خلدهما من أفكار نقدية إزاء إشكالية "العمل المغترب" و" مقدمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل" و"مساهمة في نقد المقولات الاقتصادية" و"المسألة اليهودية" ، كل هذه الأعمال كانا يطلعان عليها في " الحوليات الألمانية –الفرنسية"، التي ستجسد أطارا للتفاهم الفلسفي ثم السياسي ، كما ستشكل البذور الأولى لنسج صداقة فكرية ستتحول في ظرف وجيز إلى صداقة إنسانية وسياسية بمجرد التعرف على بعضهما البعض بباريس سنة 1844.وما يلاحظ عن هذه الكتابات خلال هذه الفترة من مواكبتهما للتطور العاصف للصناعة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والنضالات المبكرة للطبقة العاملة التي توجت بانتفاضات سحقت قبل انتشارها، والجدالات الفلسفية والسياسية بين مختلف أطياف "الاشتراكية الحقة"، أنها كانت ما تزل متأثرة بإيديولوجية اليسار الهيغيلي، وخاضعة بشكل خاص لتأثير مادية فيورباخ الأنثروبولوجية التي أخذ منها ماركس مفهومي "اغتراب الإنسان " و"الجوهر البشري"، على الرغم من هذا التأثر الذي شكل مرحلة انتقالية للانتقال من نقد السياسة إلى نقد الاقتصاد السياسي ، فقد ساعدهما على الانتقال من مواقع الديمقراطية الجذرية إلى مواقع الشيوعية(1) .
الطريق الملكية الى المادية التاريخية
لقد كان إنجلس هو السباق إلى إتارة موضوع الاقتصاد السياسي، بسبب تجربته العملية في مصنع أبيه بإنجلترا، حيث سيجمع عصارة تفكيره حول تطور الرأسمالية، منذ النزعة التجارية(المركنتيلية) من النظام الصناعي الإنجليزي، مازجا ملاحظاته الخاصة في المصنع العائلي بالمعلومات التي استمدها من اللجان البرلمانية ومن تقارير موظفي الصحة. (2)
بعد ذلك بكثير، سيصف فريدريك إنجلس لقاءهما على هذا النحو:" عندما زرت ماركس في باريس إبان صيف 1844، ظهر أننا على اتفاق تام في كل الميادين النظرية، ويبدأ من تلك اللحظة تعاوننا، فماركس لم يكن وصل إلى رأيي ذاته، بل عممه في الحوليات الفرنسية- الألمانية، وفحواه: ليست الدولة في المحصلة هي التي تحدد وتسير المجتمع البرجوازي، إنما المجتمع البرجوازي هو الذي يحدد الدولة ويسيرها، فمن الواجب إذا تفسير السياسة وتاريخها انطلاقا من الظروف الاقتصادية وتطورها وليس العكس". (3)
بنفس التقدير، يكتب ماركس في مقدمة مؤلفه:" مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" فريديريك إنجلس، الذي كنت معه، مذ صدور مخططه العبقري عن " مساهمة في نقد المقولات الاقتصادية"(في الحوليات الفرنسية- الألمانية) على علاقات تراسل دائمة، كان قد وصل، بطريق آخر غير الذي كنت أسلكه، إلى نفس النتيجة (انظر كتابه حالة الطبقة العاملة في إنجلترا). (4)
أنجبت هذه الفترة قبل لقائهما ببروكسل سنة 1845، كتاب مشترك هو " العائلة المقدسة" الذي اعتبراه حسب تقديمهما للكتاب " كتمهيد للمؤلفات المستقلة التي سوف نقدم فيها – كل واحد على حدة- نظرتنا الإيجابية وبالتالي موقفنا الإيجابي بالنسبة لأحدث المنظومات الفلسفية والاجتماعية" وعالجا من خلاله فلسفة بوبر الألماني الذي يتبنى " فلسفة الإنسانية الحقيقية" التي تضع " الوعي الذاتي" أو " الروح" موضع الإنسان الفردي الحقيقي، إذ ينتقدان في هذه الفلسفة طابعها التأملي ، الذي هو في المحصلة النهائية سوى " التعبير الأكثر كمالا لمبدأ المسيحية الألمانية الذي يحول النقد في النهاية إلى قوة فائقة" حسب تعبيرهما(5).
وبشكل مستقل، ألف إنجلس وهو مقيم في بارمن كتاب " حالة الطبقة العاملة في إنجلترا" حيث يستعرض بؤس البروليتارية ونضالها المستميت ضد البرجوازية، ويستنتج بأن الثورة الشيوعية هي النتيجة الحتمية لتطور النظام الرأسمالي" (6)، بينما يؤلف ماركس " أطروحات حول فيورباخ". هذا الكتاب الذي تخلص فيه ماركس من نفوذ فيورباخ، عندما دحض ماديته القديمة: " إن وجهة نظر التي تتخذها المادية القديمة هي وجهة نظر المجتمع البرجوازي. أما المادية الجديدة فتقف في وجه نظر المجتمع الإنساني، الإنسانية الاجتماعية"( الأطروحة الأولى)، كما منح قيمة كبيرة للنشاط البشري وللبراكسيس الثوري في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي واعتبار " الجوهر البشري" هو " مجموع العلاقات الاجتماعية" فقد جاء في الأطروحة التاسعة ما يلي:" كل ما تستطيع أن تصل إليه المادية المؤسسة على الحدس ، التي لا تتصور العالم الحسي في شكل الفاعلية العملية، هو تصور الفرد المعزول والمجتمع البرجوازي"، أو الأطروحة الأخيرة:" لقد فسر الفلاسفة العالم بشتى الطرق، لكن المهم هو تغييره". (7)
هذه البذور الأولية لعرض المبادئ العامة للمادية الجدلية والمادية التاريخية ، ستعرف نضجها العميق مع التأليف المشترك لكتاب :" الإيديولوجية الألمانية" (8)وعلى الرغم من عدم نشره في زمن حياتهما، بسبب الرقابة السياسية التي فرضت عليه وصعوبة العثور على ناشر يتجشم عناء نشره(كتب لاحقا بخصوص مصير المخطوطة:" تركنا المخطوطة لنقد الفئران القاضم وذلك بلا حسرات لأننا بلغنا هدفنا الجوهري ألا وهو توضيح وتنقية تصوراتنا")، فقد جسد عن حق المبادئ العامة للمادية الجدلية والمادية التاريخية وأضحى منذ فترة نشره سنة 1932 أحد الأسلحة النظرية التي تؤطر تكتيك واستراتيجية النضال البروليتاري من أجل الهيمنة الثقافية والضفر بالسلطة.
يرتكز هذا العمل العملاق على أربعة أعمدة رئيسية: - البناء النظري والسياسي لقوانين التاريخ البشري، بإبراز التعارض بين التصور المثالي والتصور المادي للتاريخ، - تحليل الأدوار الكبرى في التاريخ البشري من وجهة نظر المادية التاريخية، - نقد الفلسفة التأملية بعد الهيغيلية، - نقد الاشتراكية الحقة.
انطلاقا من هذه المنهجية التي تعطي الأولوية للمادة على الفكر، وللحياة الاقتصادية على تاريخ نشأة الأفكار أو الروح، يبرز أن "كل تصور للتاريخ قد أهمل حتى الآن قاعدته الواقعية أو اعتبرها شيئا ثانويا ليس له أية رابطة مع تطور التاريخ. بحكم ذلك كتب التاريخ دوما حسب معايير غريبة. إن إنتاج الحياة الواقعي يعتبر ميدان ما قبل- التاريخ، بينما التاريخ يفصل عن الحياة المادية ويظهر هكذا شيئا ما يقيم خارج وفوق الأرض. العلاقات بين البشر والطبيعة تطرد من التاريخ، الأمر الذي ينجب التعارض بين الطبيعة والتاريخ. هكذا لا يرون في التاريخ سوى صراعات سياسية ودينية كبيرة، ينظرون إليها بصورة رئيسية على أنها صراعات مبادئ وأن يشاطروا طور تاريخي أوهام هذا الطور". (9)
لحد الآن كانت فلسفة هيغل أسطع تعبير وأفضل طريقة في المدرسة الألمانية لكتابة التاريخ، الذي لا تتصوره كتاريخ مصالح واقعية أو مصالح سياسية، بل فقط محض أفكار. ذلك أن " بعد فصل الأفكار المهيمنة لعصر ما عن الأفراد الذين يحوزون السلطة وخصوصا عن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المتولدة من درجة محددة لتطور قوى الإنتاج والوصول هكذا إلى هذه النتيجة التي هي أن ما يهيمن في التاريخ هو دوما الأفكار. من السهل جدا أن نستخلص من هذه الأفكار المختلفة الفكر في ذاته [المثال Idée] معتبرة العنصر المهيمن في التاريخ وأن نتصور هذه الأفكار المختلفة كتحديدات للفكرة المطلقة، كتعيينات للمثال المطلق، للمفهوم، الذي يتحقق، الذي يصير واقعا، في سير التاريخ، من الطبيعي عندئذ أن تشتق كل العلاقات الإنسانية من مفهوم الإنسان، من الإنسان المفهومي، من الجوهر الإنساني، من الإنسان ذاته، هذا ما فعلته الفلسفة التأملية". (10)
لا يقف تصور ماركس وإنجلس عند حدود نقد هذه الفلسفة التأملية ، بل يذهبان في اتجاه تأسيس منظور مادي للتاريخ، يأخذ بعين الاعتبار ليس ما يقول البشر عن نفسه أو ما يتصورونه ويتخيلونه، بل ينطلقان من الشروط المادية التي تحدد نمط عيشهم وتبادل العلاقات الاجتماعية للإنتاج والاستهلاك فيما بينهم، ومن فاعليتهم العملية، من أجل إدراك تصوراتهم التي هي انعكاس لنمط حياتهم، فما " أن نعرض هذه السيرورة حتى يكف التاريخ عن كونه جمع وقائع لا حياة فيها ...كما عند التجريبيين الذين يظلون مجردين، أو العمل الخيالي للذوات الخيالية كما عند المثاليين...فمع الحياة الواقعية ، يبدأ العلم الواقعي. عرض فاعلية البشر العملية وتطورهم العياني". (11)
ومن أجل تعيين الشروط المادية لحياة الأفراد الواقعية، يلزم تملك وعي هذه الشروط في شروطها التاريخية، ذلك " أن الشرط الأول لكل تاريخ بشري هو وجود كائنات بشرية حية. إن الشيء الأول الواجب تسجيله هو إذن الصفة الجسدية لهؤلاء الأفراد والعلاقات التي تحددها بين هؤلاء الأفراد وباقي الطبيعة، بالطبع لا نستطيع هنا التوسع في صدد تكوين البشر الفزيائي، ولا في صدد الشروط الطبيعية التي وجدوها، الشروط الجيولوجية والتضاريسية والمائية والمناخية وسواها، كل علم تاريخي يجب أن يذهب من هذه القواعد الطبيعية وتعديلها بعمل البشر خلال التاريخ". (12)
ولكي يصنع هؤلاء البشر تاريخهم، يجب أن يكونوا قادرين على الحياة، الشيء الذي يلزمهم تلبية حاجياتهم الأساسية من أكل وشرب وملبس و" بضعة أشياء أخرى"، وعلى هذا الأساس فنشأة التاريخ الأول والشرط الأساسي لكل تاريخ هو إذن إنتاج وسائل التي تسمح بتلبية الحاجيات أي إنتاج الحياة المادية نفسها.
إن التطور الدائم للتاريخ ينبع من تلبية هذه الحاجات وخلق وسائل الإنتاج اللازمة لهذا الغرض هما سببان لولادة حاجات جديدة وخلق أدوات جديدة. ف" إنتاج الحياة سواء إنتاج حياته عن طريق العمل، أو إنتاج حياة الغير بالإنجاب، يظهر لنا من الآن، مؤلفا من علاقة مزدوجة، علاقة طبيعية من جهة وعلاقة اجتماعية من جهة أخرى، علاقة اجتماعية، بمعنى أنه يجب أن نفهم بذلك تعاون عدد من الأفراد، أيا كانت الشروط والكيفية والهدف.." (13)، ولكون البشر يتعذر عليهم تلبية مثل هذه الحاجيات فرادى، باستقلال بعضهم عن بعضهم الآخر، بل فقط باجتماعهم في مجال الشغل، لذا فإن حياتهم وعملهم لهما طابع اجتماعي، يحدده نمط الإنتاج. هكذا" يظهر أن أسلوب إنتاج محدد، أو مرحلة صناعية معينة هما دوما مرتبطان بأسلوب تعاون محدد أو بمرحلة اجتماعية معينة، أن أسلوب التعاون هذا هو نفسه قوة إنتاجية ، وإنن مجموع قوى الإنتاج التي في تصرف البشر يحدد حالتهم الاجتماعية، وأنه بالتالي يجب دوما أن ندرس ونعالج تاريخ البشر بالارتباط مع تاريخ الصناعة والمبادلات". أما كيف يحصل التحول من نمط إنتاج مغين إلى نمط إنتاج جديد، فهو يخضع ل «الشروط المتنوعة التي تظهر بادئ بدء كشروط للفعالية الإنسانية، ثم كقيود عليها، تؤلف، في كل التطور التاريخي، سلسلة متلاحمة من العلاقات الاجتماعية، الرابط الذي يجمعها يكمن في واقع أن العلاقات الاجتماعية التي صارت قيدا على الإنتاج، تخلي المكان لعلاقات اجتماعية جديدة، تلائم قوى إنتاج أكثر تطورا وبالتالي مستوى أعلى لفاعلية الأفراد، وهذه العلاقات الاجتماعية بدورها تصير قيدا وتخلي المكان لغيرها". (14)
تبعا لهذا التصور المادي للتاريخ، يستخلص ماركس وإنجلس هذا القانون العلمي العام:" حسب تصورنا، كل نزاعات التاريخ لها أصلها في التناقض الذي بين قوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية". (15)
أما القانون الثاني لعلم التاريخ فيتجسد في أن العنصر الجوهري في التطور الاجتماعي هو الصراعات الطبقية بين المالكين، وغير المالكين، هذه الصراعات التي تتبدل مع تبدل قوى الإنتاج، والعلاقات الاجتماعية الموازية له، والتي تولد الثورات الاجتماعية، غير أن تاريخ الصراعات الطبقية في الماضي، كان عادة يحجب طابعها الاجتماعي، وترتد إلى أشكال مختلفة من الصراعات الدينية والسياسية، مما يجعل عددا من الجمهور ينساق وراء اعتبار الدوافع الدينية أو السياسية هي السبب الحقيقي لتلك التغيرات الثورية في التاريخ، وانتشار نظريات لمؤرخين وعلماء بورجوازيين، يكرسون هذه الادعاءات في مخيلة الشعب.
إن حدوث تحول في العلاقات الاجتماعية يأتي كنتيجة لتطور قوى الإنتاج، التي تولد بدورها تقسيمات جديدة للعمل وأشكال جديدة للملكية. إن تقسيم العمل الذي تطور في الوقت نفسه مع تطور قوى الإنتاج، " أدى أولا إلى الانفصال بين العمل الصناعي والتجاري من جهة، والعمل الزراعي من جهة أخرى، وبذلك عينه إلى الانفصال بين المدينة والريف وتعارض مصالحهما. إن التطور اللاحق يؤدي إلى الانفصال بين العمل التجاري والعمل الصناعي. في الوقت نفسه، نرى نمو، من جراء انقسام العمل داخل فروع النشاط المختلفة، انقسامات ثانية بين الأفراد المتعاونين في أعمال محددة". «وكخلاصة لتقسيم العمل فهو لا يحصل حقا إلا اعتبارا من اللحظة التي يحدث فيها انفصال العمل اليدوي عن العمل الفكري». (16)
هذا التقسيم للعمل له علاقة وشيجة بالملكية الخاصة، فتطور قوى الإنتاج في ظل الملكية الخاصة يقود إلى تركز هذه الأخيرة في أيدي قلة، الأمر الذي يستتبع استغلال المالكين لغير المالكين، وبالتالي انقسام المجتمع إلى طبقتين متصارعتين، وينجم عن كل طبقة صاعدة ضرورة الاستلاء على الدولة كي تصير هذه الطبقة طبقة مسيطرة وكي
تتصرف لوحدها بسلطات الدولة من شرطة وقضاء وقوانين. ولتبرير مشروعية هذه الدولة الطبقية ترتدي من جراء كونها مدافعة عن الدولة شكل مصالح عامة موجودة بشكل مستقل عن العلاقات الاجتماعية. هكذا تتخذ الدولة هيئة ممثل مصالح عامة مشتركة لكل الأفراد، في حين أنها ليست سوى أداة سيطرة في خدمة الطبقات المالكة. (17)
هنا بالضبط يحيلنا تفكيك ماركس وإنجلس للمنظومة الاقتصادية والسياسية لكافة العصور، بإبراز دور الدولة والإيديولوجية الموازية لها، على اعتبار أن طبيعتهما الجوهرية ليست منفصلة عن تطور أنماط الإنتاج والصراعات الطبقية التي تكتنفها، وبهذا التحليل المادي فقد حررهما من الطابع اللاهوتي والميتافزيقي اللذين ارتبط بهما منذ قرون طويلة، هذا الإسهام الكبير في نظرية المادية التاريخية يشكل القانون العام الثالث في " قارة التاريخ" حسب تعبير لويس ألتوسير. (18)
مع ذلك ،لن يكتمل معمار التأسيس النظري لعلم التاريخ، من وجهة نظر مادية، إلا من خلال الربط الجدلي بين مفاهيم ذات طابع عمومي، يتعلق الأمر بالأدوار التاريخية التي اضطلعت بها الطبقة الاجتماعية التي تسيطر في مرحلة معينة من تطور الإنتاج الاجتماعي، والدولة التي تعبر عن مصالحها خلال ظروف النشأة أو الانحلال، ثم مضمون الإيديولوجية التي تعكس مستوى تطور الوعي السياسي بين الطبقات والأشكال التي يتمظهر من خلالها الصراع السياسي بين الطبقات المتناحرة فيما بينها، فإذا كانت سيطرة الأرستقراطية في العصور الوسطى تعتمد على تعميم إيديولوجية الفضيلة والشرف، فإن سيطرة البرجوازية في العصر الحديث قد ركزت على تعميم مفاهيم الحرية والمساواة.(19)
من خلال مقدمة الطبعة الإنجليزية للبيان الشيوعي (20)، لخص إنجلس الأطروحة المركزية للمنظور المادي للتاريخ، كما صاغه ماركس وإنجلس:" تنحصر الفكرة الأساسية في أن النمط الاقتصادي للإنتاج والتبادل السائد في كل مرحلة تاريخية، والبنية الاجتماعية المنبثقة عنه بالضرورة، يشكلان الأساس الذي يقوم عليه بناء التفكير السياسي والفكري لهذه الحقبة، والذي يمكن من خلاله فقط تفسير هذا التاريخ، ومن ثم، فإن تاريخ البشرية كله( منذ انحلال النظام القبلي البدائي وملكيته الجماعية للأرض) كان تاريخ الصراعات الطبقية، الصراعات بين المستغلين(بكسر الغين) والمستغلين(بفتح الغين) بين طبقات حاكمة وأخرى محكومة مضطهدة(بفتح الهاء) ، وأن تاريخ هذه الصراعات يعرض سلسلة من النشوء بلغت، حاليا، درجة، لا يسع معها الطبقة المستغلة(بفتح الغين) والمضطهدة- أي البروليتاريا- أن تتحرر من نير الطبقة المستغلة(بكسر الغين) الحاكمة- أي البورجوازية- بدون أن تحرر، في الوقت نفسه، المجتمع بأسره نهائيا من كل استغلال واضطهاد، ومن كل الفوارق الطبقية والصراعات الطبقية".
اعتناق الشيوعية
شكل اكتشاف "قارة التاريخ" كعلم جديد في تناول تحولات المجتمع والدولة وانتقالهما من طور اقتصادي إلى طور جديد الذي يرافقه باستمرار تطور قوى الإنتاج وتثوير العلاقات الاجتماعية، شكل نقطة تحول كبيرة في المسار السياسي والفكري لماركس وإنجلس، وهو ثمرة تعاون مشترك ما بين سنوات 1845و1847 قادتهما إلى إنضاج المبادئ الأساسية للمادية التاريخية، واعتناق الشيوعية كنظرية لتحرر الطبقة العاملة بعد تخليصها من شتى ضروب التفكير المثالي والطوباوي، الذي كرسته من جهة، "الاشتراكية الحقة" في ألمانيا مع هيس وفيورباخ، والاشتراكية الإصلاحية والشيوعية الطوباوية في فرنسا وإنجلترا وبلجيكا وسويسرا. وإذا كانت الشيوعية تتميز جذريا عن الثورات الاجتماعية السابقة، لأنها لم تقترح الإلغاء التام للمنظومة الرأسمالية، إذ ظلت تكتفي باستبدال سيطرة طبقية بطبقة أخرى ، دون أن تصيب نظام الملكية بأذى، فإن الشيوعية التي يدافعان عنها تتمثل في كونها:" ليست هي الحالة التي ينبغي خلقها، ولا مثال أعلى ينبغي على الواقع أن يسايره، فنحن نسمي شيوعية الحركة الواقعية التي تلغي الحالة الراهنة(...) وفي المجتمع الشيوعي حيث لكل فرد مجال نشاط حصري، بل يستطيع أن يكسب المهارة في الفرع الذي يعجبه، ينظم المجتمع الإنتاج العام، ...وبإلغاء الملكية الخاصة الذي يشكل جزءا لا يتجزآ منها(...) سيمكن كل فرد من اكتساب القدرة على الانتفاع بإنتاج العالم بأسره في كل الميادين". (21) وهي أيضا غير قابلة للتحقيق من وجهة نظر عملية:" إلا عبر العمل الفوري والمتزامن لغالبية الناس، وهو يفترض التنمية الشاملة لقوى الإنتاج، وللعلاقات الدولية المرتبطة بها... ولا يمكن للطبقة الكادحة أن توجد هكذا إلا ضمن التاريخ العالمي، وهي مثل الشيوعية ليست نشاطاتها إلا وجود" تاريخ عالمي". (22)
هكذا يخضع تحقيق الشيوعية توفر شروط تاريخية مثلما توفرت في تطور النظام الرأسمالي، أي تعميم أسلوب الإنتاج الرأسمالي كل العالم، تحرير الطبقة العاملة من كل الأوهام والطوباويات التي تعرقل نشاطها الثوري، ثم تكثيف النشاط الفكري والسياسي للشيوعية في كل العالم.
البراكسيس الثوري وقيادة النضال البروليتاري العالمي
خلال الفترة التي سبقت تحرير البيان الشيوعي مع نهاية سنة 1847، تكثف النشاط السياسي لماركس وإنجلس في عدة عواصم أوروبية (لندن، بروكسيل باريس...) من أجل بلورة الحزب البروليتاري الثوري العالمي، الذي سينجز المهمة التاريخية للطبقة العاملة، وقد حددت الأهداف الثورية في ضرورة توحيد جميع الشيوعيين والاشتراكيين في منظمة واحدة، وتنظيم هجوم سياسي يرمي إلى رفع راية الأممية الشيوعية في جميع بلدان أوروبا وأمريكا، خصوصا بعد الهبات والانتفاضات التي عمت هذه البلدان، وكان وراء تحريكها الجماهير العمالية خاصة في قطاع النسيج، القطاع الصناعي الأكثر تقدما إلى جانب قطاع السكك الحديدية. هكذا سيتم تعويض عصبة العادلين بلندن إلى عصبة الشيوعيين، وتأسيس لجنة المراسلات الشيوعية لتحل محل عصبة المنفيين، وبباريس سيشكل إنجلس في يناير 1847 لجنة لنفس الغرض، توج هذا التأسيس باستبدال الخليط من الشيوعية الفرنسية-الإنجليزية، والفلسفة الألمانية، الذي كان يشكل العقيدة السرية للعصبة، وفي ذات الوقت التخلي عن الهرمية التنظيمية التي كانت تتميز بطابعها السري ، وبسيطرة فكر" الاشتراكيين الحقيقيين" أو " الزائفين"، بالإضافة إلى استبدال شعارها الذي كتبه الشاعر روبرت برونز:" كل بني الإنسان أخوة" بشعار :" يا عمال العالم اتحدوا"، وهو الشعار الذي انبثق من الانتفاضات العمالية الباريسية .(23)في غشت من سنة 1847 سيؤسس ماركس جمعية العمال الألمان على نمط الجمعية التي رآها تعمل في لندن وفي نفس السنة من شهر سبتمبر سينشر ماركس في بروكسيل كتابه السجالي مع برودون: «بؤس الفلسفة» الذي كتبه مباشرة بالفرنسية، حيث تكرست القطيعة النهائية مع آباء الاشتراكية الفرنسية. في فترة لاحقة سيعلق ماركس سنة 1888:" بأن قراءة (بؤس الفلسفة) و(البيان الشيوعي) يمكن أن يستخدم مقدمة لقراءة (رأس المال) ...لأن (بؤس الفلسفة) يتضمن بذور النظرية التي طورت بعد عشرين عاما من العمل في (رأسمال)".
البيان الشيوعي، البرنامج النظري السياسي لتحرر الطبقة العاملة
كلف ماركس في المؤتمر الثاني لعصبة الشيوعيين لكتابة البيان على أساس مسودة البيان الذي خطه إنجلس وحصره في اثني عشرة نقطة، لكنه لم يف بوعده لأنه كان مشغولا خلال شتاء 1848 بالتحضير لإلقاء خطابين هامين، يتطرق الأول للتبادل الحر، في الوقت الذي ما يزل النقاش مستمرا حول إلغاء(قوانين الحبوب) التي تحمي الزراعة الإنجليزية، كان ماركس يرمي من خلال هذا الخطاب شرح للعمال السبب الذي يجعل من التبادل الحر وعولمة الأسواق أمرين مستحسنين، لأن في هذه العملية التاريخية، سيتم تسريع وتعميم الرأسمالية في كل العالم، ومن ثمة فتح الطريق للاشتراكية. أما الخطاب الثاني الذي ألقاه أمام جمعية العمال الألمان، فقد تركز حول موضوعة الاستغلال، أي (العمل المأجور ورأسمال)، من خلاله رسم الخطوط العريضة لنظرية فائض القيمة، حيث حلل الكيفية التي يستحوذ بها الرأسمال على فائض العمل، والقيمة التي يخلقها العمل، إذ يمنح الرأسمال للعمال تكلفة إعادة الإنتاج، من خلال الأجرة التي لا تمثل نصيب العامل من السلعة التي ينتجها، بل الأجرة هي الجزء الموجود قبلا من السلعة والذي يشتري به الرأسمالي كمية معينة من قوة العمل المنتجة. ذلك أن قوة العمل المنتجة هي سلعة يبيعها العامل للرأسمال لكي يعيش. (24)
قبل إنزال مشروع البيان الشيوعي في فبراير 1848، ستبدأ ثورات 1848 تعم أوروبا بسبب الفقر والمجاعة والاستغلال المكثف واستبداد الحكومات الأرستقراطية.
في الأسبوع الأخير من شهر يناير من سنة 1848 سيتم تحرير البيان الشيوعي بعد تعديل مسودة إنجلس المكونة من 12 نقطة والتي ستصبح في النسخة النهائية مختزلة في 10 نقط.
التناحر الطبقي بين البورجوازية والبروليتاريا
تشتمل هذه الوثيقة التاريخية على تصور جديد في الفكر السياسي المعاصر، إذ تجسد قطيعة معرفية وسياسية مع مختلف التيارات الإيديولوجية والفلسفية البرجوازية وغيرها، وعبرت بلغة في غاية الروعة والبيان والإقناع عن ثلاثة أفكار رئيسية: ا- التصور المادي للتاريخ الذي يكشف عن تطور العلاقات الاجتماعية- الاقتصادية بارتباط مع تطور النضال الطبقي الذي يسمح بالانتقال الثوري من فترة تاريخية محددة إلى فترة أخرى، ب- استخلاص الأفكار والمبادئ العامة للاشتراكية العلمية أو الشيوعية كمرحلة أخيرة لتحرر الطبقة العاملة من الاستغلال والاستلاب ومعها كل المجتمع وإنهاء الصراع بين الطبقات، ج- ثم النضال الطبقي البروليتاري وتطوره إلى الثورة البروليتارية.
جاءت فصول البيان دقيقة ومركزة في عرض برنامج الحزب الشيوعي، سواء على المستوى النظري أو على المستوى العملي. ففي الفصل الأول الذي يعبر عن الصراع العدائي بين البرجوازية والبروليتارية، يبتدئ بهذه العبارة البليغة: «إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية" ثم يفصل بطريقة منهجية صراع الطبقات عبر التاريخ، بين الأحرار والعبيد، بين النبلاء والعامون، بين البروليتارية والبرجوازية، وكان هذا الصراع ينتهي إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين. (25)
الدور التاريخي للبورجوازية
ثم ينتقل ليشرح بإسهاب التطور التاريخي للبرجوازية ودورها الثوري في هذا المسار الطويل من الحضارة الإنسانية، ذلك أن هذه البرجوازية انبثقت أصولها التاريخية الأولى من أقنان القرون الوسطى، وبفضل اكتشاف أمريكا وتطور الملاحة البحرية حول إفريقيا، شكلا مرتعا لنشوء البرجوازية، كما أن سوق الهند الشرقية والصين، واستعمار أمريكا، والتبادل مع المستعمرات، وازدياد وسائل التبادل ، والسلع عموما، وفرت الشروط لانطلاق الملاحة والتجارة والصناعة، وكانت دافعا رئيسيا للنمو السريع للعنصر الثوري المنبثق عن المجتمع الإقطاعي.(26) ويستطرد البيان في الفقرة التاسعة من الفصل الأول:" بيد أن الأسواق كانت تتسع، والطلب كان يزداد باستمرار، فأمست المانيفاتورة عاجزة عن دورها . وعندئذ ثور البخار والآلة، الإنتاج الصناعي، وحلت الصناعة الكبيرة الحديثة محل المانيفاتورة، وحل الصناعيون أصحاب الملايين، أساطين جيوش بأكملها، أي البرجوازيون العصريون، محل الصناعيين المتوسطين". (27)
وفي الفقرة الموالية يشرح البيان كيفية إيجاد السوق العالمية، ليستخلص أن "البرجوازية العصرية هي نفسها نتاج مسار طويل، وسلسلة تحولات في نمط الإنتاج والمواصلات".(28)
بعد إبراز دور البرجوازية في تثوير الإنتاج وخلق السوق العالمية، يبرز في الفقرات اللاحقة، مكانة البرجوازية السياسية، ذلك أن " لكل مرحلة من مراحل تطور البرجوازية تلك، كانت مشفوعة بتقدم سياسي متطابق..."
ففي كمونة القرون الوسطى، وفي جمهوريات القرون الوسطى، وفي مدن القرون الوسطى، ازدهر نمو البرجوازية. وبتكون البرجوازية تحقق وجود الطبقة الثالثة في مواجهة الأشراف ورجال الدين. وأصبحت " سلطة الدولة الحديثة مجرد هيئة تدبير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها". (29) ورغم الطابع الرجعي الذي تؤديه اليوم، فهذا لا يلغي الطابع الثوري الذي ارتبط بنشأتها، منذ انبثاقها من المجتمع الفيودالي القديم، فالفقرة الثالثة عشر" تتحدث عن ثورية البرجوازية التي دمرت كل العلاقات الإقطاعية والبطريركية والرومانسية الرعوية، كما جردت كل الفعاليات التي كان ينظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة والخشوع، من هالتها، فحولت الطبيب، ورجل القانون، والكاهن، والشاعر، والعالم، إلى أجراء في خدمتها."(30) غير أن أكبر تحول فرضته البرجوازية هو " أنها لا تستطيع البقاء دون أن تثور باستمرار أوضاع أدوات الإنتاج وبالتالي علاقات الإنتاج، أي مجمل العلاقات المجتمعية." (31) يعتبر هذا التثوير لوسائل الإنتاج والتغيير المستمر للأوضاع الاجتماعية، وما يرتبط بهما من هواجس القلق والتحرك الدائم، هو ما يميز عصر البرجوازية عن باقي العصور السالفة. ذلك أن طبيعتها التوسعية تملي عليها:" التصريف الدائم لمنتجاتها تتسع باستمرار، تسوقها في كل أرجاء الكرة الأرضية. فلا بد لها من أن تعشش في كل مكان، ومن أن تقيم علاقات في كل مكان" وهو ما يضفي عليها الطابع الكوني في السيطرة، "فالبرجوازية باستثمارها السوق العالمية، طبعت الإنتاج والاستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي".(32) واستحالة للتعصب والتقوقع القوميان ، تصبح " النتاجات الفكرية لكل أمة ملكا مشتركا، ومن الآداب القومية والإقليمية ينشأ أدب عالمي" ثم لا يلبت هذا التوسع الاقتصادي من دفع حتى الأمم المتخلفة من الالتحاق بهذا الركب الحضاري الجديد، ذلك أن:" الأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وترغم البرابرة، الأكثر حقدا وتعنتا تجاه الأجانب، على الاستسلام، وتجبر كل الأمم، إن شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح برجوازية. وبكلمة واحدة تخلق عالما على صورتها"(33)
وبرؤية أكثر وضوحا يستطرد البيان التحول الذي تفرضه البرجوازية على المناطق الزراعية والبلدان المتخلفة:" فمثلما أخضع الريف للمدينة، والبلدان الهمجية وشبه الهمجية للبلدان المتحضرة، أخضعت الشعوب الفلاحية للشعوب البرجوازية، والشرق للغرب"(34)
يبلغ هذا التشخيص مداه عندما يشير البيان إلى الدور الثوري للبرجوازية، " ففي غضون سيطرتها الطبقية، التي لم يكد يمضي عليها قرن من الزمن، خلقت قوى منتجة تفوق بعددها وضخامتها ما أوجدته الأجيال السابقة كلها مجتمعة، فالآلة، وإخضاع قوى الطبيعة، واستخدام الكمياء في الصناعة والزراعة، والملاحة البخارية، وسكك الحديد، والتلغراف، واستصلاح أراضي قارات بكاملها، وتسوية مجاري أنهار لجعلها صالحة للملاحة، وبروز عوامل كاملة من الأرض- أي عصر سالف، كان يتصور أن مثل هذه القوى المنتجة كانت تهجع في صميم العمل المجتمعي". (35)
الدور الثوري للبروليتاريا حفارة قبر البورجوازية
انطلاقا من مبدأ أن كل شيء خاضع للتغير، فالأدوار الثورية والتقدمية التي كانت تضطلع بها البرجوازية أضحت في ظروف المزاحمة وفائض الإنتاج ترتد على نفسها، وتبعا لذلك أصبحت معرقلة لتطور قوى الإنتاج، ذلك أن " المجتمع يجد نفسه فجأة، وقد رد إلى وضع من الهمجية المؤقتة، حتى ليخيل أن مجاعة، وحرب إبادة شاملة، قد قطعتا عن وسائل العيش، فتبدو الصناعة والتجارة وكأنهما أثر بعد عين، ولماذا؟ لأن المجتمع يملك المزيد من الحضارة، والمزيد من الصناعة، والمزيد من التجارة.." (36) لأن :" البرجوازية غدت أضيق من أن تستوعب الثروة ، التي تحدثها..." وفي سبيل التغلب على أزماتها تقوم " بتدمير كتلة من القوى المنتجة بالعنف، ومن جهة أخرى بغزو أسواق جديدة وباستثمار الأسواق القديمة كليا" ثم يضيف بأن البرجوازية تتجه نتيجة هذا الوضع إلى " الإعداد لأزمات أشمل وأشد، والتقليل من وسائل تداركها"(37)
وفي ختام تشخيص البرجوازية يصل البيان إلى هذه النتيجة التي تفتح الطريق نحو البديل الثوري: " فالأسلحة التي صرعت بها البرجوازية الإقطاع، ترتد الآن على البرجوازية نفسها" (38)
لم تصنع البرجوازية فقط الأسلحة التي ستضعها خارج التطور التاريخي، بل خلقت أيضا القوة المدمرة لجبروتها، أي الطبقة البروليتارية الصاعدة، هذه القوة التي تتنامى بسرعة فائقة، كلما نمى رأسمال البرجوازية وتوسعت أسواقه، وهم" لا يعيشون إلا إن وجدوا عملا، ولا يجدون عملا إلا إذا كان عملهم ينمي الرأسمال"(39)، حيث تتحول قوة عملهم إلى سلعة مثل جميع السلع التي تباع وتشترى في السوق، هكذا أصبحت الطبقة العاملة معرضة لجميع صنوف المزاحمة وتقلبات السوق، كما فقدت استقلاليتها إزاء شروط العمل حيث تقسيم العمل، وتوسع استعمال الآلة، والقيام بأعمال روتينية تجعل الطبقة العاملة ملحقة بالآلة، علما أن تكلفة عملها لا تتجاوز وسائل العيش ولمواصلة النسل، لأن" ثمن كل سلعة يساوي كلفة إنتاجه. إذن، كلما أصبح العمل منفرا، تدنى الأجر، وفضلا عن ذلك، بقدر ما يتسع استعمال الآلة وتقسيم العمل، تشتد وطأة العمل، سواء من جراء زيادة ساعات العمل، أو مضاعفة العمل المطلوب(إنجازه) في وقت معين أو تسريع حركة الآلة، إلخ.." (40)
ومزيدا من التشخيص الدقيق لأوضاع الطبقة العاملة، يشير البيان إلى الطابع العسكري لتنظيمهم في أوراش العمل وخضوعهم لتراتبية اجتماعية مقيتة، وعن إحلال النساء محل الرجال كلما تطلب الأمر قدرا من المهارة والقوة، ذلك أن" الفروق في الجنس والسن لم يعد لها شأن مجتمعي بالنسبة إلى الطبقة العاملة، لم يعد هناك سوى أدوات عمل تختلف كلفتها باختلاف السن والجنس"(41) وتتحول قاعدة المجتمع التي كانت تتشكل من المراتب الصغرى للطبقات الوسطى، كحرفيين وصناع صغار ومزارعين وتجار، إلى الجموع الغفيرة من البروليتارية، لأن " رأسمالها الصغير لا يكفي لتشغيل الصناعة الكبيرة، فتهلك في مزاحمة كبار الرأسماليين، من جهة، ومن جهة أخرى، لأن الطرائق الجديدة للإنتاج تحط من قيمة مهارتها، وهكذا تتكون البروليتارية من جميع طبقات السكان."(42)
بعد استعراض الأوضاع المزرية التي توجد عليها البروليتارية، ينتقل بنا البيان إلى رسم لوحة بانورامية، عن نضالاتها التي تنتقل من طابعها العفوي، ضد تدمير السلع الأجنبية والآلات، وشيئا فشيئا تتآزر فيما بينها كنتيجة لجرها من طرف البرجوازية للنضال ضد أعدائها وخصومها الإقطاعيين، وبقايا الحكم الملكي المطلق، والملاكين العقاريين، وبعض الأقسام البرجوازية غير الصناعية أو المتنافسة، ثم تكتسب وعيا بقوتها، نتيجة تقدم الصناعة، وتماثل الأوضاع المعاشية لمجموع الطبقة العاملة، بسبب المضاربة المتعاظمة بين البرجوازيين، الشيء الذي يفرض عليهم "تأليف اتحادات ضد البرجوازية، ويتكاتفون للحفاظ على أجر عملهم، ويؤلفون جمعيات دائمة للتمون تحسبا لانتفاضات محتملة. وهنا وهناك، ينفجر النضال شغبا"(43) ويتطور هذا النضال مع تطور المواصلات التي تجعل نضال الطبقة العاملة موحدا في كل مكان، ويغذو كل نضال وطني هو نضال طبقي، وهذا الأخير نضالا سياسيا، ورغم أن انتظام البروليتاريين في طبقة ثم في حزب يتعرض للنسف،" لكمه ينهض مرارا وتكرار أقوى وأمتن وأشد بأسا، ويستفيد من الانقسامات في صفوف البرجوازية، فينتزع الاعتراف على وجه قانوني العمل ببعض مصالح العمال، مثل قانون عشر ساعات(يوميا) في إنجلترا" (44) كما تكتسب استعمال السلاح الفكري والسياسي، بفضل دفعها إلى المعترك السياسي، من طرف البرجوازية التي تستعين بها ضد أعدائها من أرستقراطيين وأقسام من البرجوازية وضد جميع برجوازيات البلدان الأجنبية، و" هكذا فإن البرجوازية نفسها هي التي تزود البروليتارية بعناصرها التثقيفية، أي الأسلحة التي ترتد عليها "(45)، ونتيجة انحدار جزء من البرجوازية إلى أسفل الدرك الاجتماعي، فهي الأخرى تساهم في تثقيفها، ومع احتداد الصراع الطبقي، حيث تعرف الطبقة السائدة تفسخا، ينسلخ قسما صغيرا منها وينظم إلى الطبقة الثورية في المجتمع، أي الطبقة البروليتارية التي تحمل بين يديها المستقبل." فكما انتقل في الماضي قسم من النبلاء إلى البرجوازية، ينتقل اليوم قسم من البرجوازية إلى البروليتارية، لا سيما هذا القسم من الايديولوجيين البرجوازيين ، الذين ارتفعوا إلى الفهم النظري لمجمل الحركة التاريخية "(46)، إلى هنا نصل إلى مربض الفرس، حيث يتم التأكيد بقوة التحليل العلمي على الدور الثوري للطبقة العاملة، ذلك أن " البروليتارية وحدها هي الطبقة الثورية حقا، فالطبقات الأخرى تنهار وتتلاشى أمام الصناعة الكبيرة، والبروليتارية هي نتاجه الخاص"(47)، بينما الطبقات المتوسطة والصغرى، إذ تحارب البرجوازية فلكي تحافظ على مصالحها، وعلى وجودها من التلاشي، كما أن مواقفها السياسية تتلون حسب القوى المهيمنة، فتارة تكون رجعية، تحاول العودة بالتاريخ القهقري، وتارة ثورية عند انتقالها الوشيك إلى صفوف البروليتارية، فتتبنى وجهة نظر البروليتارية، دفاعا عن مصالحها الراهنة والمستقبلية. وتتميز البروليتارية عن اللومبنبروليتارية(lumpenproletariat) بكونها " حثالة الفئات الدنيا من المجتمع القديم، فأنها قد تنجرف هنا وهناك في الحركة بفعل ثورة بروليتارية، لكنها بحكم وضعها الحياتي كله تصبح أكثر استعدادا لبيع نفسها لمكائد الرجعية"(48)، وكخلاصة مركزة لثورية الطبقة البروليتارية، فهي وحدها دون باقي الطبقات الاجتماعية الأخرى، التي لها مصلحة في تقويض جميع أشكال الملكية، وبالتالي" القضاء على كل نمط للملكية القائم حتة الآن. والبروليتاريون لا يمتلكون شيئا يحافظون عليه، وعليهم أن يقوضوا كل الضمانات الخاصة، وكل الحمايات الخاصة القائمة حتة الآن." (49)، وبالتالي فإن " تقدم الصناعة الذي تشكل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يحل وحدة العمال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحمهم. وهكذا فإن تطور الصناعة الكبيرة يزلزل تحت أقدام البرجوازية، الأساس الذي تنتج عليه وتتملك المنتجات. إن البرجوازية تنتج، قبل كل شيء، حفاري قبرها. فانهيارها وانتصار البروليتارية، أمران حتميان."(50)
الشيوعيون والبروليتاريا، أية علاقة؟
لا يشكل الشيوعيون تنظيما منفصلا عن الأحزاب العمالية، وليست لهم مصالح منفصلة عن مصالح الأحزاب العمالية عموما، كما لا يتميزون عنهم بمبادئ خاصة تطبع الأحزاب العمالية بميسمها، يحدث الفرق فقط ، في كونها تعبر عن المصالح العليا للحركة البروليتارية، ولا تتقيد بطابعها القومي، وتتابع باستمرار " مختلف أطوار التطور، التي يمر بها الصراع بين البروليتارية والبرجوازية"(51)
غير أن تميزها الكبير يأتي من تبصرها النظري في استشراف آفاق النضال البروليتاري، فضلا عن تميزها بممارسة الحزم بخلاف الأحزاب العمالية في سائر البلدان، ويكمن هدفها الأساسي في خدمة نفس هدف جميع الأحزاب البروليتارية، أي تشكل البروليتارية في طبقة والسعي إلى الضفر بالسلطة، من خلال إسقاط هيمنة البرجوازية، لكن الشيوعيين في ترجمتهم العملية للمبادئ الشيوعية لا يتقيدون بوجهة نظر هذا أو ذاك من " مصلحي العالم" بقدر ما يعبرون " عن الشروط الحقيقية لصراع طبقي قائم، عن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا. وإلغاء علاقات الملكية، القائمة حتى الآن، ليس هو إطلاقا السمة المميزة للشيوعية."(52) لأن ما يهم الشيوعيون ليس استبدال ملكية بملكية كما فعلت البرجوازية مع النظام الإقطاعي، بل القضاء على الملكية البرجوازية قضاء تاما،" والحالة هذه يستطيع الشيوعيون أن يلخصوا نظريتهم بعبارة وحيدة: إلغاء الملكية الخاصة."(53) وضد ترهات المشككين في أهداف الشيوعيين بخصوص إلغاء الملكية "المكتسبة شخصيا بجهد فردي" يرد عليهم البيان بأطروحتين: الأولى التي تتعلق بالملكية الصغيرة ، ملكية البرجوازي والفلاح الصغيرين، التي لا يلغيها الشيوعيون ولكن يتكفل بها تطور الصناعة التي تقضي عليها بشكل يومي، أما الأطروحة الثانية فتتعلق بإلغاء الطابع المقيت لتملك نتاج عمل العامل ، هذا العمل الذي يبادل بأجر من أجل تجديد قوة العمل، والحالة هاته لا يحيا العامل إلا من أجل تنمية الرأسمال، وبالقدر الذي تفرضه مصلحة الطبقة السائدة. فما تسميه البرجوازي بالعمل الحر هو مراكمة العمل لصالح تنمية الرأسمال، أما العمل المتراكم في المجتمع الشيوعي فه وسيلة لتنمية قدرات العمال وإغنائها ورقيها، على العكس من ذلك ففي" نطاق علاقات الإنتاج البرجوازية الراهنة، يقصد بالحرية: التجارة الخرة، والبع الحر، والشراء الحر"(54)، ثمة فرق جوهري بين القدرة على تملك منتجات مجتمعية، والقدرة على استغلال عمل الغير بواسطة هذا التملك، وفي صميم نضال الشيوعيين هو جعل منتجات العمل ذات طابع تشاركي، وبالمثل جعل النتاجات الفكرية والثقافية شيئا مشاعا بين الجميع، وفي ذات الوقت تحرير التربية والتعليم من فبضة البرجوازية، وتغيير الطابع الاجتماعي البرجوازي للعائلة، الذي تستعمله البرجوازية كوسيلة للإنتاج،" فالبرجوازي يرى في امرأته مجرد أداة إنتاج، يجب أن تشتغل جماعيا. وطبعا، لا يسعه إلا أن يعتقد بأن قدر الاشتراكية سيصيب النساء أيضا" (55) ذلك أن التغيير الجذري لعلاقات الإنتاج البرجوازية هو وحده الذي يسمح بزوال "إشاعة النساء الناجمة عنها، أي زوال البغاء الرسمي وغير الرسمي" (56).
في المجتمع الشيوعي تتبدل أيضا نظرة البروليتارية لمفهومي الوطن والقومية، فعندما تستولي البروليتارية على السلطة السياسية، وتتحول إلى طبقة قومية، وتدبر أمرها كأمة، فهي في العمق ذات طابع وطني، لكن منظورها للوطنية والقومية مختلف جذريا عن المنظور البرجوازي،" فمع نمو البرجوازية، مع حرية التجارة، مع السوق العالمية، مع التماثل في الإنتاج الصناعي والأوضاع الحياتية الملائمة لذلك، تزول الفواصل القومية والتناقضات بين الشعوب...وبقدر ما يقضي على استغلال الفرد للفرد يقضى على استغلال أمة لأمة أخرى، ومع زوال التناحر بين الطبقات داخل الأمة يزول العداء من الأمم".(57)
إذا كانت جميع الأنظمة الاجتماعية السابقة قد حافظت بشكل أو بآخر عن استغلال قسم من المجتمع قسما آخر، فإن أشكال الوعي الاجتماعي ظلت مشتركة، رغم التباين والتنوع، لأنها لا يمكن أن تنحل إلا بزوال التناحر الطبقي، لذلك فالثورة الشيوعية كنتاج خاص للبروليتارية، " هي القطيعة الأكثر جذرية مع علاقات الملكية المتوارثة، ولا غرابة أن تقطع في مجرى نموها، بجذرية أشد، صلتها بالأفكار المتوارثة."(58)
وفي الفقرات الأخيرة من هذا الفصل ، يدور الحديث على التدابير التي تصبح ضرورية عندما تضفر البروليتارية بالسلطة السياسية، وهي قلب علاقات الإنتاج البرجوازية، التي قد تختلف من بلد إلى آخر، لكنها على العموم تطبق في البلدان الأكثر تقدما، وهي ترتكز على "ا-نزع الملكية العقارية وتخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة، ب-فرض ضريبة تصاعدية مرتفعة- إلغاء قانون الوراثة، ح-مصادرة ملكية جميع المهاجرين، خ-مركزة التسليف في أيدي الدولة بواسطة مصرف وطني رأسماله للدولة والاحتكار له وحده، د- مركزة وسائل النقل في أيدي الدولة، ك- مضاعفة المصانع الوطنية وأدوات الإنتاج، واستصلاح الأراضي الموات وتحسين الأراضي المزروعة، وفق تخطيط عام، ل- عمل إلزامي متكافئ للجميع، وتنظيم جيوش صناعية، لاسيما للزراعة، م- التوفيق بين العمل الزراعي والصناعي، والعمل تدريجيا على إزالة الفارق بين المدينة والريف، وأخيرا تربية عامة ومجانية لجميع الأطفال، وإلغاء عمل الأولاد في المصانع بشكله الراهن، والتوفيق بين التربية والإنتاج المادي، إلخ.."(59)
نقد مختلف التيارات الاشتراكية والشيوعية
في مقدمة طبعة 1872 من البيان الشيوعي أشار ماركس وأنجلس إلى ملاحظات نقدية بخصوص تقادم بعض الأفكار في الفصل الثالث والرابع، فمن الواضح " أن نقد الأدب الاشتراكي يعاني من ثغرة حاليا، لأنه يتوقف عند عام 1847، كذلك، فإن الملاحظات حول موقف الشيوعيين من أحزاب المعارضة المختلفة، أي الملاحظات لا تزال اليوم صحيحة، من حيث أسسها، ولكنها أصبحت قديمة من حيث تفاصيلها، وذلك لأن الوضع السياسي قد تغير كليا، ولأن التطور التاريخي قضى على معظم الأحزاب المذكورة هناك، في (الفصل الرابع)."(60)
إن الجوهري في نقد التيارات التي تبنت الاشتراكية أو الشيوعية، في عهد ماركس وإنجلس، هي أنها كشفت عن مضمون الإيديولوجية الطاوية خلف مصالها الاجتماعية ، التي هددها التطور العاصف للنظام الرأسمالي، وسواء انطلقت من مواقع محافظة ورجعية، كما هو الشأن بالنسبة للأرستقراطية الفرنسية والإنجليزية، التي انهزمت أمام الثورات البرجوازية، أو انطلقت من مواقع البرجوازية الصغيرة المتأرجحة مصالحها الاجتماعية بين البروليتارية والبرجوازية، واشتراكية هذه البرجوازية الصغيرة" تريد إما إعادة وسائل الإنتاج والتبادل القديمة، وبذلك تعيد علاقات الملكية القديمة والمجتمع القديم، وإما حصر وسائل الإنتاج والتبادل الحديثة بالقوة في إطار علاقات الملكية القديمة الذي نسفته، والذي لابد من نسفه. وهي في كلتا الحالتين رجعية وطوباوية في آن واحد. النظام الحرفي في المانيفاتورة، والاقتصاد البطريركي في الريف: تلك هي كلمتها الأخيرة، وهذا الاتجاه انتهى، في تطوره اللاحق، إلى مواء جبان."(61) أما الأدب الاشتراكي والشيوعي الفرنسي الذي تأثرت به الاشتراكية الألمانية أو الاشتراكية " الصحيحة" فقد تبلور هذا الأدب في انفصال عن شروطه التاريخية التي تميزت بالنضال السياسي والايديولوجي ضد البرجوازية الفرنسية، بينما في ألمانيا ما تزل شبه ملكية وشبه برجوازية، " فقد تصرفوا حيال الأدب الفرنسي العلماني على عكس ذلك، لقد ذيلوا الأصل الفرنسي بهرائهم الفلسفي، فكتبوا، مثلا تحت النقد الفرنسي للعلاقات المالية: " تجريد الكائن البشري"، وتحت النقد الفرنسي للدولة البرجوازية:" إلغاء سيطرة الكلي المجرد" إلخ.." (62)
هذا النوع من الاشتراكية قام بوأد الأدب الاشتراكي- الشيوعي الفرنسي، وكف أن يكون التعبير الأمثل عن نضال طبقة ضد طبقة، وعوض التعبير عن مصالح الطبقة العاملة بمصالح الإنسان على العموم، أي الإنسان الذي لا ينتمي لأي طبقة اجتماعية، ولا يرتبط بالواقع، فقط يسبح في عالم الخيال. ومن مفارقات التاريخ أن نضال البرجوازية الألمانية الصاعدة لا سيما البرجوازية البروسية هو ما سمح لنضالهم بأن يكون أكثر جدية من الاشتراكيين الألمان، في مواجهتهم للإقطاع والملكية المطلقة. وفي الوقت الذي سمحت لها الفرصة أن تواجه هذه الحركة السياسية بمطالب اشتراكية راحت منكفئة على ذاتها، تعكس صدى النقد الفرنسي بشكل بليد، متناسية أن هذا النقد " يستلزم وجود المجتمع البرجوازي الحديث مع الشروط الحياة المادية المطابقة له، ومع الدستور السياسي المناسب، تلك المستلزمات التي كان العمل يجري في ألمانيا لتحقيقها." (63)، والخلاصة المريرة أن هذه الاشتراكية خدمت الحكومات الألمانية المطلقة وحاشيتها، وإذا " كانت الاشتراكية" الحقة مثلت سلاحا في أيدي الحكومات ضد البرجوازية الألمانية فإنها كانت تمثل مباشرة مصلحة رجعية مصلحة البرجوازية الألمانية الصغيرة"(64)، ويستطرد البيان نقد صنف آخر من الاشتراكية المحافظة أو الاشتراكية البرجوازية، ويضعهم في خانة:" اقتصاديون وخيرون وإنسانيون ومحسنو وضع الطبقات الكادحة، ومنظمو أعمال البر والإحسان وجمعيات الرفق بالحيوان، وجمعيات الاعتدال والقناعة، ومصلحون ضيقو الأفق من كل الأصناف."(66)، هذه الاشتراكية لا" تفهم أبدا أن تغيير أوضاع الحياة المادية يقتضي إلغاء علاقات الإنتاج البرجوازية، الذي لا يتم إلا بالطريق الثوري، بل تعني إصلاحات إدارية تستند إلى أساس علاقات الإنتاج البرجوازية هذه، أي أنها لا تغير شيئا في العلاقة بين رأس المال والعمل الماجور، بل تفلل، في أفضل الأحوال، نفقات سيطرة البرجوازية وتخفف ميزانية الدولة"(67)، في نهاية هذا الفصل، يتم تركيز النقد ضد الاشتراكية والشيوعية النقديتان الطوباويتان، فهذا الأدب الأخير هو الأدب الجنيني لنضال البروليتارية، وقد أخفق بسبب غياب الشروط المادية لتحررها ، أي اكتمال بروز المجتمع البرجوازي، وعلى الرغم من طابعه الطوباوي، فقد كان ذو محتوى رجعي، لأنه كان يدعو إلى اقتصاد الكفاف والمساواة الفجة.
وإذا كانت مذاهب سان سيمون، وفورييه، وأوين، إلخ، قد رسموا مجتمعا خاليا من التناحرات الطبقية وفق مخطط نظري مجرد، يخاطب جميع أعضاء المجتمع، بدون تمييز بين الطبقات، ويريدون بلوغ غاياتهم الطوباوية بالطرق السلمية، بعيدا عن النشاط الثوري، فإنهم مع ذلك " تشتمل الكتابات الاشتراكية والشيوعية على عناصر نقدية. فهي تهاجم المجتمع القائم بكل أسسه. ومن ثم فإنها تقدم مادة قيمة جدا لتنوير العمال. فإن موضوعاتها الإيجابية عن مجتمع المستقبل، مثل إزالة التناقض بين المدينة والريف، وإلغاء العائلة، والربح الخاص، والعمل المأجور، والمناداة بالانسجام المجتمعي، وبتحويل الدولة على مجرد إدارة للإنتاج، هذه الموضوعات كلها تعبر إلا عن إلغاء التناحر الطبقي الذي ابتدأ ينمو، والذي لا تعرف هذه الكتابات إلا شكله الأولي المبهم غير المحدد- ولذا ليس لهذه الموضوعات حتى الآن سوى معنى طوباوي صرف."(67)
موقف الشيوعيين من مختلف احزاب المعارضة
يقيم البيان تكتيك الشيوعيين، انطلاقا من أطروحتين متكاملتين: فمن جهة يدعمون قوى المعارضة في كل بلد أوروبي يسعى إلى استكمال مهام الثورة البرجوازية، والقضاء على بقايا النظام الملكي، والملكية العقارية الإقطاعية، والاستبداد السياسي، على اعتبار أن إنجاز هذه المهام في الشروط الملموسة لتطور الصراع الطبقي، يجسد مقدمة تاريخية واستهلال مباشرا لثورة بروليتارية، وباختصار:" يساند الشيوعيون، في كل مكان، كل حركة ثورية ضد الأوضاع المجتمعية والسياسية القائمة. وفي كل هذه الحركات يبرزون مسألة الملكية، مهما كانت درجة تطور الشكل الذي تتخذه، المسألة الأساسية للحركة. وأخيرا يعمل الشيوعيون ، في كل مكان، على إقامة العلاقات ، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان."(68)، ومن جهة أخرى عدم خلط الرايات مع هذه التنظيمات المعارضة، والدفاع بشكل مباشر عن المصالح العليا لنضال الحركة البروليتارية في كل العالم، والتقدم في وضع برنامجها على المحك كلما نضجت الشروط السياسية لقلب نظام البرجوازية وتعويضه بالنظام الشيوعي، ذلك أن " الشيوعيين يأنفون من إخفاء أرائهم ومقاصدهم، وينادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه.
أيها البروليتاريون، في جميع البلدان اتحدوا"(69)
ما الذي تبدل منذ صدور البيان الشيوعي سنة ١٨٤٨
إن قراءة متأنية لتطور الفكر الماركسي، بما يعني التموقع في نفس الخط النظري والسياسي لتكتيك واستراتيجية النضال البروليتاري، من أجل الضفر بالسلطة وقلب النظام الرأسمالي البرجوازي، وحل محله النظام الاشتراكي كمرحلة انتقالية نحو المجتمع الشيوعي، تستدعي امتلاك الوعي بمفاتيح القراءة، التي تؤكد من جهة على الأطروحات المركزية في النظرية الماركسية: تبني قوانين المادية التاريخية، وعلى رأسها المقولات التاريخية، مثل العلاقات المتشابكة بين نمط الإنتاج والطبقات الاجتماعية والصراع الطبقي والدولة والإيديولوجيا والثورة الاجتماعية، استيعاب تحولات الرأسمالية وأنظمة الشغل المرتبطة بها، وفي نفس الوقت إدراك جدلية الانتصار والإخفاق في التجربة التاريخية للحركة البروليتارية في العالم، ثم فهم الأسباب العميقة لفشل " تجربة الاشتراكية الفعلية".
ومن جهة أخرى تملك أدوات التحليل المادي الجدلي التي تؤكد على أولوية الواقع التي تحدد طبيعة الفكر والممارسة السياسية في كل طور تاريخي محدد، أو مرحلة تاريخية طويلة، والنشاط الثوري أو الفعالية البشرية التي تؤثر في هذا الواقع وتسعى لتغييره، وفق مضمون " أطروحات حول فيورباخ"، وتمثل الكشوفات الجديدة في العلوم الحقة والعلوم الإنسانية. فمنذ تاريخ صدور البيان الشيوعي كوثيقة تاريخية، حدثت تحولات عميقة، غيرت في هذا الاتجاه أو ذاك أو عدلت من المخطوطة الماركسية باعتبارها طوبى تحررية وثورية انبثقت من شروط ولادتها التاريخية.
انسجاما مع هذا السياق، تسعفنا جيدا وجهة نظر لينين المنظر البروليتاري الثوري، الذي يقول:" أننا لا نعد مذهب ماركس على الإطلاق شيئا كاملا ومقدسا لا يمس، إننا مقتنعون على العكس من ذلك بأنه لم يقم إلا بوضع حجر الأساس للعلم الذي ينبغي أن يطوره الاشتراكيون في جميع الاتجاهات إذا كانوا لا يريدون أن يتخلفوا عن ركب الحياة. ونحن نعتقد أنه يجب على الاشتراكيين قطعا أن يطوروا بأنفسهم نظرية ماركس، لأن هذه النظرية لا تقدم إلا مبادئ موجهة عامة تطبق على كل حالة خاصة، في إنجلترا بخلاف فرنسا، في فرنسا، بخلاف ألمانيا، في ألمانيا بخلاف روسيا". (70)
هذه سردية ثانية تحتاج إلى قراءة أخرى.
المراجع:
(1): ماركس ونقد السياسة: اندري كوزيل- سيزارلوي- ايتين باليبار
(2)و(3):Karl Marx ou l’esprit du monde. Biographie-Jacques Attali
(4): مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي: كارل ماركس
(5): الإيديولوجية الألمانية
(6): حالة الطبقة العاملة: فريدريك إنجلس
(من 8إلى 17): الإيديولوجية الألمانية
(18): Pour Marx: Louis Althusser
(19): الإيديولوجية الألمانية
(20): البيان الشيوعي
(21) و(22): الإيديولوجية الألمانية
(23): المرجع السابق: Karl Marx ou l’esprit du monde. Biographie
(24): العمل المأجور ورأسمال: كارل ماركس
(من 25 إلى 69): البيان الشيوعي
(70): لينين: الأعمال الكاملة المجلد الرابع.
في 20 فبراير2021