الأصولية ومستلزمات التحرر الإجتماعي
"تعتبر الأصولية أن المجتمع الإسلامي التقليدي القديم قد زال وحل محله التحديث والتغريب والكفر والطاغوت، وعلينا أن نتصدى لهذه كلها، هذا والآن، لإقامة المجتمع الإسلامي الأصيل على أنقاض المجتمع القائم الملوث. والأصولية في هذا، حركة جذرية راديكالية تشبه في بعض وجوهها الحركات والدعوات اليسارية الحديثة. (...) وإذا كانت الأصولية وليدة الاحتكاك بالحداثة والتغريب، فإنها اتخذت من الأفكار الحديثة وسيلة لنقد الحداثة ونقضها من أجل إقامة مجتمع إسلامي أصيل أو أصلي في الحاضر...". (*)
انطلاقا من هذا التعريف الذي هو أكثر انطباقا على " جماعة العدل والإحسان " التي تحظى بالاهتمام أكثر من غيرها في المغرب خاصة في الوسط اليساري.
منذ بروز حركة 20 فبراير2011 والنقاش دائر على أشده بين مكونات اليسار حول كيفية التعامل مع تنظيم االعدل والإحسان الأصولي، فمنها من ينفره نظرا لمرجعتيه الرجعية وتاريخ الإسلام السياسي الدموي في بلدنا وتورطه في اغتيالات " عمر بنجلون، آيت الجيد، المعطي بوملي...) وأحداث عنف دموية بالجامعة (فاس، وجدة على سبيل المثال) ، ومنها من حصلت عندها القناعة أن الأصولية قد تعافت ويمكنها أن تساهم في جبهة إسقاط المخزن، والمراهنة في خضم هذه الغملية السياسية سوف تتطور لتأخذ موقعها لبناء النظام الديمقراطي.
تعتبر الحركات الإسلامية أن محرك الصراع السياسي يدور حول الدين، وان العالم يتحالف بكل أطيافه لمنع تطبيق "حكم الله في الأرض". وبالتالي فرحى الصراع المجتمعي يتمحور حول ضرورة تطبيق الشريعة لكي تنعم أمة محمد بالفردوس الموعود. فالخالق فضل بعضنا عن بعض في الأرزاق وبالتالي فالرأسمالية لا تتعارض مع برامج الحركات الإسلامية بكل أطيافها، إن لم تكن أكثر تخلفا، وإن ظفرت بالسلطة فلن تذخر جهدا لقمع القوى الشيوعية والتقدمية كما حدث في إيران وإندونيسيا والسودان...ولا زالت دماء شهداء الحركات الإسلامية الإجرامية لم تجف بعد في المغرب وفلسطين ولبنان ومصر وتونس وسوريا والعراق وغيرها من باقي مناطق العالم. ولا غرابة أن تقوم أنظمة ضالعة في التبعية للدوائر الإمبريالية إلى إدماجها في المؤسسات المشرعنة للاستبداد، حيث انتشت للخدمات الجليلة التي قد يقدمها الإسلام السياسي لتثبيت حكمها.
ورغم ذلك فمن الخطأ أن يتخلى اليسار عن انتقاد الإسلام السياسي خوفا منه أن يكون عرضة لنفور الجماهير بدعوى المس بعقيدة أغلب الشعب المغربي، بل عليه ـ في احترام تام لحرية العقيدة والدفاع عن الحق في ممارسة كل الشعائر المرتبطة بها ـ أن يفضح أسس وأحكام التشريع والفقه والفتاوي التي تكرس مظاهر الخنوع والاستغلال والتمييز بين المرأة والرجل والتشريعات السالبة لحقوق المواطنة. وهي بأكملها تشكل القاعدة الصلبة لدولة الخلافة، نجعل من الفقراء والمهمشين مطية تيارات الإسلام السياسي لإغراقهم في الجهل والخنوع وفق منظورهم الرجعي.
من واجب اليسار أن يتصدى للبلبلة الفكرية في خلط الأوراق باعتبار التيارات الرجعية حليف موضوعي لإسقاط المخزن. وفي إطار الصراع الديمقراطي يصبح نقد الإسلام السياسي أحد الشروط السياسية للفرز السياسي داخل الجبهة الميدانية، ولتطوير الصراع الطبقي بشكل مستقل عنها؛ وهذا يعكس في الجوهر المضمون الساسي والإديولوجي الملازم لهوية اليسار التقدمية مع التوجه أساسا إلى القوى الاجتماعية الأساسية المعنية ببناء الحزب من طبقة عاملة وفلاحين معدمين ولنشر الفكر التنويري الثوري التقدمي.
إن التناقض الرئيسي يتغدى من الصراع العدائي بين تكتل طبقي حاكم وعموم الفئات الشعبية المتضررة من الاستغلال الفاحش والحرمان والفقر وأولها الطبقة العاملة، وليس كما تشدد على ذلك الأصولية بين متدين وغير متدين؛ بين من يحكم ويطبق الشريعة وبين أوسع الفئات في المجتمع التي لا تمارس المعتقدات الدينية والفكرية على طريقتها. إن الصراع هو بين من يملك وسائل الإنتاج ومن لا يملك سوى قوة العمل لبيعها، بالرغم من وجود فئة قليلة مالكة للرأسمال تمارس الشعائر كاملة ولكنها لا ترحم الشغيلة من آفة الاستغلال.
إن هوية اليسار ليست انقلابية تلهث وراء السلطة بأي ثمن عبر توافقات لا مبدئية، بل تحمل في جوهرها المشروع المجتمعي الذي ستنمحي فيه كل مظاهر استغلال الإنسان للإنسان وتحقيق مساواة غير منقوصة على كافة الأصعدة، وأولها بين المرأة والرجل، في أفق تزول فيه الطبقات. لذلك فالمدخل الأساسي للخوض في التعارض البين للمنطلقات الفكرية بين اليسار والرجعية الأصولية، يبدأ بالتطرق لبعض القضايا المفصلية الاستراتيجية، أساسها ما يفرق بين الدولة المدنية عن دولة الخلافة.
تقوم الدولة المدنية على أسس التراكمات الكونية للبشرية من قبيل قيم المواطنة والديمقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة وبين كل مكونات المجتمع. بينما تهدف الأصولية إلى بناء الدولة الإسلامية محاولة تكريس وحدة عضوية وهمية بين الحياة الدنيوية والمنظومة الروحية، مع إخضاع القوانين الوضعية للتشريع الديني؛ وهي بذلك تقفز على كل صيرورات التشكل الاجتماعي والثقافي والهوياتي للمجتمع وكأنه شيء جامد لا يتحرك. ومن بين أوجه الخلاف مع الأصولية الدينية نسطر ما يلي:
1ـ من المؤكد أن النظام الرأسمالي والأصولية يكتملان في وضع إطار الاضطهاد والاستغلال للمرأة؛ لأن المرتكز الأساسي لتحقير ودونية المرأة يكمن في التشريع الذي تطفي عليه صبغة دينية، من نظام مخل في الإرث وفرض الحجاب، وتعدد الزوجات ولو كن قاصرات؛ فكم تبجح في العلن كوادر الإسلام السياسي في المغرب باقتراف هذا الحيف الذي يمتهن ضدا على آدمية وإنسانية المرأة.
2 – مفهوم المواطنة: أولى التناقضات المبدئية مع الإسلام السياسي هي موقفه الرجعي من قصية المرأة والمساواة بينها وبين الرجل، إذ يرتكز على الفرق البيولوجي لشرعنة دونية المرأة وإهانتها بسلب حريتها وإقصائها من كل مرافق الحياة بدعوى الخوف عليها لطمس شخصيتها، وجعلها ذيلية للرجل، وفرض الحجر والوصاية عليها وتقييد مصيرها بما بات يعرف بقضايا "الشرف".
3ـ أما في تأويله للقيم الكونية من حريات عامة وحرية العقيدة، وحرية الرأي، وحرية التنظيم، وحرية التعبير، ومناهضة الميز العصري... فالأصولية تطالب بها حين تخدم مصلحتها وتحرمها إن تعارضت مع خلفياتها وأهدافها؛ ولا داعي للتفصيل في التعامل مع الحريات الفردية التي تمارسها في الخفاء وتعاديها جهرا كالمثلية والعلاقات الرضائية.
4ـ وتناهض الأصولية الإسلامية مبدأ الشعب مصدر السلط، لتعوضه معتمدة على شعارها "الإسلام هو الحل" أن الشريعة هي مصدر التشريع وأن الحاكمية هي لله وبالتالي لا تعترف إلا بالتشريعات المنزلة. بينما بالنسبة لليسار وكافة القوى الديمقراطية يبقى الشعب في إطار الدولة المدنية هو مصدر التشريع الذي يعتمد كإطار على المواثيق الدولية والقيم الكونية التي راكمتها الإنسانية بارتباط مع متطلبات الواقع المعاش.
5 – من فضائل العلمانية أنها تمكن الفرد من ممارسة شعائره كيفما كانت معتقداته. وأهم مرتكزاتها تنص على فصل السلط، من بينها فصل الدين عن الدولة وكل مؤسساتها. وهذا ما يلزم الدولة حماية ممارسة كل المعتقدات الدينية والفكرية دون أن تنحاز لأي من هم على اعتبار أن ممارسة هذه المعتقدات تدخل في نطاق حرية الأفراد. على عكس ذلك تعتبر التيارات الإسلامية أن الإسلام هو "دين ودنيا" غير قابل للتأقلم مع العصر، فما علينا إلا الامتثال لشعار السيد قطب" خدوا الإسلام جملة أو دعوه"؛ بمعنى ألا يمكن فصله عن الدولة، ولا معنى للطاعة لله إلا بالطاعة للحاكم. وهو ما توظفه الدولة كما أسلف الذكر للزج بالدين في صراعات سياسية لتثبيت نظام الحكم، وتمويل التيارات المتطرفة لطمس الجوانب الإنسانية والإيجابية لبعض القيم الدينية عامة ويكون بذلك النظام السياسي من أوائل المستغلين للدين لفرض شرعيته ومحاربة أي منحى علماني للدولة.
6 – محتوى الديمقراطية: لطالما اعتبرت التيارات الإسلامية الديمقراطية كبدعة غربية من صنع الكفار، إلا أن تبين لها إمكانية الاستفادة منها كوسيلة للوصول إلى الحكم وفرض الشريعة الإسلامية، ولما تثبت أقدامها تعلن صراحة أن دستور" الأمة" هي الشريعة، وتنفي أية مشاركة لمن يخالف ذلك بل لا مكان في للحياة السياسية في مجالها سوى للمسلم؛ متجاهلة أن الديمقراطية تفضي إلى حكم الشعب بنفسه، عملت مختلف إسهامات الشعوب بتضحيات جسام على إغنائها على أرض الواقع، وأصبحت بالتالي مكسبا كونيا مرتبطا أشد الارتباط بباقي القيم الإنسانية من حرية العقيدة، والرأي، والتنظيم، وحرية التعبير...
7 –يمتد التعارض الفكري بين اليسار المغربي والأصولية ليشمل المواقف السياسية من قضايا عديدة كالقضية الفلسطينية حين تريدها التيارات الإسلامية للمسلمين فقط وهو التقاطع الحاصل مع الصهيونية التي تراها لليهود وحدهم لا سواهم. كما تتخلى الأصولية عن خوض معارك مرتبطة بالنضال العام كتمتيع المغاربة الأمازيغ بكافة الحقوق التي ترسخ الهوية الأمازيغية، ومبدأ حق تقرير المصير الشعب الصحراوي، والتموقف من النظام الرأسمالي التبعي ومناهضة الإمبريالية...
من المنطلقات المهمة في العمل الجبهوي هي "الضرب على حدة ولكن دون خلط الرايات". وكثيرا ما تم تبرير خلط الرايات هذا بضرورة ترتيب التناقضات يصبح بموجبها العدو الطبقي الرجعي الثاني في سلم الترتيب حليفا، ويتم التخلي له في نفس الوقت عن الحق في قيادة الجبهة نظرا لقوته الميدانية العددية.
إن هذه الانتهازية السياسية في العمل الجبهوي هي بالضبط التي أصابت الهوية التقدمية بأكبر الأضرار عندما لا تتساءل عما قدمه العمل الجبهوي مع الأصولية الإسلامية ومآل النضال الغام خلال عشر سنوات الأخيرة، وقادت كوادر شيوعية عبر العالم إلى المشنقة من طرف الأصولية الإسلامية في أول وهلة تظفر بها بالانتصار. فهلا أعاد بعض اليسار النظر في أطروحته حول إمكانية التغيير بجانب جماعة العدل والإحسان؟
ــــــــــــــــــــــــ
(*) من منشورات الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين: " في العلمانية والدولة المدنية "